كتاب الحزن الخبيث (تشريح الاكتئاب)
المؤلف: لويس ولبرت
الناشر: كلمةعدد الصفحات:314
كانت تلك أسوأ تجربة في حياتي، وربما أسوأ من مأساة وفاة زوجتي بمرض السرطان، وكم يخجلني الاعتراف أن تجربتي مع الاكتئاب كانت أسوأ من مشاهدة زوجتي تموت بالسرطان، لكنها الحقيقة التي لا يمكن إنكارها. لقد كنت في حالة لا تُشبه أي حالة مررتُ بها من قبل، فليست تلك حالة من الخمول أو الهبوط العام، ولم أكن مُحبطاً بالمعنى الشائع للكلمة، بل كنتُ مريضاً بالفعل، لقد كنتُ متقوقعاً على ذاتي تُحاصرني الأفكار السلبيّة، وتُسيطر عليّ فكرة الانتحار معظم الوقت.
فقدت قدرتي على التفكير السليم، وتلتها قدرتي على العمل، وكل ما كُنتُ أرغبُ فيه هو البقاء في السرير طوال النهار والليل. لم أستطع الخروج من البيت، ولم أعد قادراً على قيادة دراجتي، وكُنتُ أُعاني من نوبات الهلع إذا تُركتُ وحيداً. وبالإضافة إلى كل ذلك، ظهرت لديّ أعراض بدنيّة، فقد عانيتُ سخونة في جميع أنحاء جسدي، وبدأت أُصاب باختلاجات لا إرادية، وقد أدت تلك الأعراض إلى زيادة قلقي. لقد كان المستقبلُ مُظلماً تماماً، وكنتُ متأكداً أنني لن أعود إلى حياتي الأولى مجدداً، ولن أتمكن من مزاولة عملي ثانية، وسيطر عليّ خوفٌ شديد، لأنني ظننت أني في طريقي إلى الجنون.
كانت زوجتي جيل نيفل تخجل من إصابتي بالاكتئاب، لذلك كانت تُخبر زملائي وأصدقائي أننيّ مُنهكٌ بسبب مرض القلب، وكانت تخشى أن يتأثر عمليّ إذا عُرِفت حقيقة مرضي. وعندما شُفيت من الاكتئاب ظللت متبرماً بالوصمة المصاحبة للمرض التي تُلاحق المصابين به، لذلك قررتُ أن أُعلن إصابتي بالاكتئاب على الملأ، وكتبتُ مقالاً في صحيفة “الجارديان” حول الموضوع، وقوبل الموضوع بترحاب كبير، وكانت ردود الفعل إيجابية جداً من المرضى والأطباء وأولئك الذين يعيشون مع أشخاص مكتئبين، واستحسن الجميع مناقشة الموضوع علناً، لأنهم وجدوا ذلكَ مفيداً للجميع.
هناك الكثير من كتب “المساعدة الذاتية” حول موضوع الاكتئاب، غير أني لم أجد فيها معلومات كافية يمكن الاعتماد عليها، لذلك قررت أن أكتب هذا الكتاب لأُسجل فيه ما هو معروف ومعتمد عن هذا المرض، بهدف مساعدة المصابين بالاكتئاب على فهم ما يحدثُ لهم، أما هدفي الآخر فهو محاولة محو الوصمة التي تُلاحق مرض الاكتئاب.
أعلمُ أنني قد أدخل في محاولات ليست من اختصاصي، فأنا لستُ طبيباً ولا طبيباً نفسياً، لكنني باحث في مجال البيولوجيا، وينصبّ اهتمامي على ميكانيكية تطور الأجنة، وكيف تؤثر الجينات الوراثية على سلوك الخلايا التي تكوّن الأطراف والأعضاء المختلفة، لذلك فإنني أمتلكُ معرفة كافية حول العمليات البيولوجية الأساسية والأنظمة المعقدة. والأهم من ذلك أنني خبرت الاكتئاب بنفسي…
تعريف الاكتئاب وتشخيصه
هل الاكتئاب مرض؟ يُصنف الاكتئاب أنهُ خللٌ في المِزاج، مثلما يُصنف السرطان أنهُ خللٌ في الخلايا، ولكن ما لمزاج؟، يمكننا تعريفه بالقول إنه حالة انفعالية تدوم فترة طويلة من الزمن، وتُعد معظم الانفعالات حالات عابرة تقوم على ردود الفعل نحو الأحداث الخارجية والأفكار الداخلية.
أما المزاج أو بالأحرى اختلال المزاج، فقد يدوم أشهراً كما هي الحال في الاكتئاب. ويُشار كذلك إلى مشاعر الخوف والحُزن أنها انفعالات عاطفية، وهي مشاعر تشترك فيها كل الثقافات، غير أن تلك الانفعالات تتحول إلى مرحلة المرض إذا شكلت عائقاً أمام مواصلة الإنسان حياتهُ اليومية الطبيعية، فتُصبح بذلك حالة مرضية.
ظهر مصطلح الاكتئاب للتعبير عن حالة الاضطراب العقلي التي تتميز بتدني الحالة الانفعالية للشخص خلال القرن التاسع عشر، وبحلول عام 1860 ظهر المصطلح في المعاجم الطبية مُعرّفاً أنه: “هبوط في الحالة المعنوية للشخص المصاب بالعلة”.
كان لإميل كرابلين في بداية القرن العشرين تأثير كبير على تغيير مفهوم الاكتئاب من خلال كتابه التعليمي الشهير “الطب النفسي السريري”، الذي تضمّن ما نعرفه اليوم بالاكتئاب الهوسي والاكتئاب غير الهوسي، بالإضافة إلى إدراج فروق مهمة ما زالت مقبولة بين الاكتئابات أُحاديّة الأفق التي تتضمن الاكتئاب الحاد والخفيف، والاكتئابات ثنائية القطب التي ترافقها فترات الهوس.
تتمحور شكوى مرضى الاكتئاب في المجتمعات الغربية حول شعورهم بالتفاهة واليأس تصاحبه رغبة في الانتحار، وكلها أسباب نفسية اعتيادية في حالات الاكتئاب، كما تصاحب الأعراض النفسية أعراض بدنية مثل تكرار الشعور بالصداع وآلام المعدة وتسارع دقات القلب. ويجد بعض المرضى صعوبة في بذل أي جهد للقيام بأبسط الأمور، وقد تظهر على وجوههم أعراض الاكتئاب المتمثلة في مسحة الحزن الغالبة على الملامح، ويشعر المريض كذلك بالدونية وفقدان القيمة الذاتية بالإضافة إلى اليأس، وكثيراً ما يشعر مريض الاكتئاب أنه على حافة فقدان قواه العقلية.
الثقافات الأخرى
هل الاكتئاب مرضٌ عالميّ مثل أمراض القلب والسرطان؟ وهل تلعب التأثيرات الثقافية دوراً رئيساً في انتشاره؟ وإلى أي حد يمكن أن نقول إن الاكتئاب تجربة شائعة في كل الثقافات؟
تتمثل الأمراض الانفعالية في الغرب من خلال مشاعر الحزن أو البهجة أو القلق والخوف، ومن ثم تكون هذه المشاعر القاعدة التي يُبنى عليها تشخيص الاضطرابات العاطفية ومن بينها الاكتئاب، وقد بدأت التفسيرات البيولوجية للأمراض العقلية تلعب دوراً كبيراً في طرق العلاج منذ ثمانينيات القرن العشرين، ولا سيما بعد نجاح العقاقير الطبية في السيطرة على أمراض بعينها مثل الاكتئاب والشيزوفرانيا. وقد أدى هذا التركيز على البيولوجيا العصبية للدماغ إلى تهميش العوامل الثقافية وإسهامها في تلك الأمراض، بالإضافة إلى المحاولات الدؤوبة لفرض التشخيص الغربي ووسائل القياس الغربيّة في مجال الأمراض النفسية على الثقافات الأخرى.
يؤكد علماء الأنثروبولوجيا الذين يدرسون الاكتئاب في المجتمعات غير الغربية أن الحزن واليأس والفساد الأخلاقي ليست اضطرابات سريرية، وأن الانفعالات لا تستند إلى البيولوجيا بل هي أحكام ثقافية يستخدمها الناس لفهم مواقفهم وعلاقاتهم مع الآخرين، ومن أمثلة ذلك أن لغة جماعة الكالولي في غينيا الجديدة تفتقد إلى كلمة تعني الاكتئاب، لكن الجماعة تستخدم تعبيرات قوية وعميقة للإشارة إلى الحزن. أما في سيريلانكا فإن مفهوم “اليأس” مفهوم إيجابي، لأنه يتماشى مع النظرة البوذية لطبيعة العالم. كما يُقدرّ الإيرانيون مفهومي الحزن والحداد ويعتقدون أن الحزن يُضيف عُمقاً للشخصية، إلا أنهم يرون أن الاكتئاب حالة تستدعي العلاج.
كيف يمكن للطبيب أن يُحدد إن كان شخص ما ينتمي لثقافة أخرى مصاباً فعلاً بالاكتئاب؟
قد تكون نقطة البداية هي متابعة أدائه الاجتماعي وملاحظة أي تغيير جذري في مسيرة حياته اليومية، لكن ذلك ليس بالأمر السهل، إذ أن بعض الثقافات لا ترى في الاكتئاب مرضاً يستدعي العلاج، كما حدث مع أحد الأطباء النفسيين في إحدى القرى الأوغندية، فقد لاحظ الطبيب أن بعض العُمّال في القرية مصابون بالاكتئاب حسب اعتقاده، لأنهم يشكون من التعب وعدم الرغبة في مواصلة العمل، غير أن الآخرين لم يُعلّقوا بشيء على انسحاب زملائهم من العمل نظراً لتوفير الكثير من الطعام ولا حاجة للمزيد من العمل لتوفيره، وهنا يظهر الفرق الثقافي، إذ أن التوقف عن العمل لأي سبب أمر غير مقبول في مجتمعنا.
لا شك في أن أهم الدراسات في الطب النفسي عبر الثقافات هي المتعلقة بالاكتئاب و”الجسدنة”، وهي التعبير عن الاكتئاب من خلال أعراض بدنية، ويُطلق عليها أحياناً اسم الاكتئاب المُقنّع، كما تعرف هذه الأعراض البدنية بالنهك العصبي، لكن تشخيص النهك العصبي تراجع في الغرب في بدايات القرن العشرين، ليزدهر بشدة في الصين حيث أصبح جزءاً من الطب التقليدي الصيني الذي يرتكز على إعادة التناغم في عمل أعضاء الجسم الحيوية، وإعادة التوازن للطاقة الحيوية للشخص.
يُقدم كلينمان مثالاً عن سيدة صينية عوملت بقسوة في أثناء الثورة الثقافية في الصين، ثم تزوجت من رجل صعب المراس وولدت بعد ذلك طفلاً ميتاً، وأُصيب السيدة لاحقاً بصداع مزمن وإرهاق ودوار وعانت من طنين في الأذنين، وربما لو قابلت حينها طبيباً نفسياً غربياً لشخّص حالتها بالإصابة بالاكتئاب دون جدال.
لكن الأطباء الصينيين في الثمانينيات عزوا حالتها إلى التهاب العصب نظراً لنقص في طاقة النظام العصبي المركزي لديها، وفي مثل هذه الحالة لم تُسهم مضادات الاكتئاب في تخفيف الأعراض بصورة تُذكر، لكن التعامل مع مشاكل السيدة العائلية والمهنية وحلها، ساعدا كثيراً على شفائها مما كانت تعانيه، فمن وجهة نظر الطب الأنثروبولوجي يرتبط المرض ارتباطاً وثيقاً بالعلاقات الاجتماعية للمريض.
تتكرر الجسدنة لدى مرضى الاكتئاب في المجتمعات غير الغربية، فنجد أن أعراض الصداع وآلام المعدة ونقص الطاقة، تتكرر كلها بين المصابين بالنهك العصبي المرتبط بالاكتئاب والقلق في بلدان مثل الهند والبيرو وتركيا والعراق.
لماذا يتعرض أشخاص بعينهم للاكتئاب؟
لا بد أن ننظر إلى العوامل الوراثية التي تحدد نسبة قابلية الشخص للإصابة بالاكتئاب، بالإضافة إلى العوامل البيئية الخارجية، وذلك عن طريق تفحُصّ التاريخ المرض للعائلة وتتبع الإصابة بالاكتئاب عبر الأجيال المختلفة، وإمكانية انتقاله من جيل إلى آخر. تُشير كل الأدلة إلى أن نسبة وراثة مرضى الاكتئاب قد تصل إلى 50%، وهكذا فإن إمكانية تعرض أيُ شخص للاكتئاب مرهونة بنسبة 50% مما ورثه من جينات.
كما تشير الدراسات إلى أن أقرباء الشخص المصاب بالاكتئاب معرضون بدورهم للإصابة بالمرض بنسبة 20%، بما في ذلك نوبات الهوس. أما احتمالية إصابة الأطفال لأبوين مصابين بالاكتئاب فإنها تتجاوز الــ 50%.
لا يمكننا الحديث في هذا السياق عن جين خاص بالاكتئاب، فلا يوجد جين واحد مسؤول عن الاستعداد الوراثي للاكتئاب، مما يجعل التعرف إلى مجموعة الجينات المسؤولة أمراً في غاية الصعوبة، ومع ذلك فإن التعرف إلى تلك الجينات أمر شديد الأهمية، لأن ذلك قد يكشف لنا الكثير عن طبيعة هذا المرض.
الانتحار
يتحول الاكتئاب أحياناً إلى مرض قاتل إذا بدأت فكرة الانتحار تراود المريض، وهو أمر شائع بين المصابين بالاكتئاب، إذ يُقدم على الانتحار شخص من بين عشرة أشخاص مصابين بالاكتئاب الحاد، أما في حالات الاكتئاب الهوسي فتتراوح النسبة بين 10% إلى 20% من المصابين. لقد فكرت شخصياً في الانتحار مئات المرات عندما كنت في أوج حالة الاكتئاب، لكنني لم أتمكن من العثور على طريقة آمنة لأقتل نفسي دون ألم، على الرغم من أنني باحث في البيولوجيا.
تظهر الرغبة في قتل النفس بسبب عدة عوامل متشابكة منها أعباء الحياة الثقيلة وعدم القدرة على التعامل مع الواقع الصعب، بالإضافة إلى الإصابة بالأمراض المختلفة، مما يدفع المكتئب إلى التفكير بالانتحار باستمرار، لكن ذلك لا يعني أنه قد يُقدم على الانتحار بالفعل.
ولا يرتبط الانتحار دائماً بالاكتئاب، إذ أن مرضى الفصام والمدمنين على الكحول تراودهم فكرة الانتحار كذلك.
عبّر الكثير من الكُتاب عن مشاعرهم ورغبتهم في الانتحار، ومنهم الأديب “تولستوي” وقد وصف تجربته في كتابه “اعترافاتي”، حيث يقول في الكتاب إنه كان سعيداً ويتمتع بصحة جيدة، بيد أنه فكر في الانتحار مراراً، وهو أمرٌ محير دون شك، وهذا بالطبع أحد المتناقضات التي تُميز الاكتئاب:
“لا أجد أي معنى لحياتي، فكلُ يوم وكل خطوة تُقرّبني من الهاوية وأرى نهايتي أمام عيني، فلا أستطيع التوقف أو التراجع ولا يمكنني التعامي عما ينتظرني من عذاب حتى الموت الذي سيتكفل بمحو كل شيء، وهأنذا الرجل السعيد، سليمُ البدن لا أملك من أمري شيئاً، تجرني قوة طاغية إلى هلاكي غير أنني لا أنوي الانتحار، لكنها قوة عظيمة وطاغية تلك التي تسحبني بعيداً عن الحياة، قوة توازي تعلقي بالحياة وتشبثي بها فلا أملك حيالها إلا التمني.
لقد راودتني فكرة الانتحار وظلت تلح عليّ حتى إنني أُحاول خداع نفسي وإبعادها عن هذه الفكرة، فأنا لا أُريد أن أتسرع، وأُحاول تنظيم أفكاري قبل أن أقتل نفسي، لقد كنتُ سعيداً ومع ذلك فقد أخفيتُ حبلاً كان موجوداً في غرفتي لأتجنب شنق نفسي به بين رفوف الكتب في غرفة مكتبي… لم أكن أعرف ما أُريد، وكنتُ خائفاً من الحياة، ومع ذلك فقد كان هناك بصيصٌ من الأمل يجذبني إليها”.
الانفعال والتطور والحزن الخبيث
يمكننا مقارنة الاكتئاب بالسرطان، فقد قطع الباحثون شوطاً طويلاً في السنوات الأخيرة ليوفروا لنا معرفة أفضل بمرض السرطان، وأصبحنا نعي تأثير هذا المرض على الأعضاء المختلفة بما فيها الدماغ والكبد والعظام والرئتين. وبتطبيق ذلك على مرض الاكتئاب، فلا بد أن ندرك العملية الطبيعية خلف اضطراب الاكتئاب؛ لا بد من فهم الانفعالات قبل محاولة فهم الاكتئاب، لأن الاكتئاب في تقديري حُزن تحول إلى حالة مرضية، فهو اضطراب في الانفعالات المختلفة التي يجمع بينها، في رأيي عامل مشترك واحد وهو أنها جميعاً ردود أفعال لمواجهة إشارات مرتبطة إما بالأذى أو المكافأة.
هناك عدد من الانفعالات الأساسية التي تتضمن السعادة، والخوف، والغضب، والحزن، والتقزز، والاندهاش، وكلها تظهر تلقائياً وبسرعة وتستمر فترة قصيرة، وهذا ما يميز الانفعالات عن المزاج، لذلك لا تُعد الحالات المزاجية القائمة لفترة من الوقت مثل الشعور بالرضا أو الإحباط انفعالاً أساسياً، لأنها ليست ردة فعل على مؤثر معين، وهكذا فإن تصنيف الحزن أهو انفعال أم لا يعتمد على فترة ديمومة الحزن.
ظهر في دراسة عن الكلمات التي يستخدمها الأشخاص العاديون في وصف الاكتئاب أن أكثر الكلمات التي ترددت على ألسنتهم كلمتا الحزن والأسى، ومن هنا تظهر أهمية دراسة الحزن وفهمه للوصول إلى فهم الاكتئاب.
ما وظيفة الحزن؟ قد يرى الكثيرون أن الحزن انفعال سلبي لا وظيفة له، بيد أن ذلك غير صحيح، إذ يلعب الحزن دوراً حيوياً في حياتنا من خلال مشاعر التعلق والالتصاق، وهي مشاعر تكيفية طوّرها البشر للحفاظ على الرابط بين الأم والطفل.
قد يظهر الحزن، كذلك نتيجة الإخفاق في تحقيق هدفٍ مهم. ويمكننا تشبيه انفعال الحزن بالجوع، فالجوع هو الدافع للبحث عن الطعام لإشباع الجسد، كذلك الحزن محرك لتعويض ما فُقد واستعادة الوشائج التي تقطعت.
يقودنا هذا التفسير التطوري للانفعالات إلى التساؤل عن سبب وجود الاكتئاب، فهل له وظيفة تكيفية تكونت خلال تطور الجنس البشري، بحيث يُصبح الشخص المكتئب أقدر على مجابهة الحياة؟ يستند دعاة هذه الفرضية إلى فكرة أن الاكتئاب يمثل ردة فعل نفسياً، وهو جزء من موروثنا التطوري، لذلك لا بد أنه يؤدي دوراً تكيفياً ما، وبما أن أداء الفرد محدود جداً في أثناء فترة الاكتئاب، فإن دعاة النظرية يرون وظيفة بيولوجية للاكتئاب فيما يتعلق بالسلوك الاجتماعي التنافسي.
تقول نظرية التنافس الاجتماعي، فيما يخص الأصل التطوري للاكتئاب عند البشر، إن الاكتئاب مرتبط باستراتيجية الخسارة، وكذلك بالنشوة عند الفوز، إذ يدّعي أصحاب النظرية أن الإنسان يشترك مع الحيوانات الاجتماعية الأخرى كالقرود في استخدام آلية اللين إذا ما كان القرد في موقف ضعيف، ولا سيما عند التنافس على الطعام أو الشريك، إذ تحد هذه الآلية من عدوانية المنافس، وتُمهد لسلوك أكثرَ قبولاً.
وتقول النظرية إن الاكتئاب طور من آليات الانسحاب عند المخاطر الكبرى في المجتمع حماية للأفراد من هجوم أحد الأعضاء للهيمنة على المجموعة.
لا أجد هذا التفسير مقنعاً، لأنه يستند إلى فرضية أن الاكتئاب نوع من أنواع التكيف، وهو في رأيي أمر غير معقول إلا إذا افترضنا في المقابل أن أمراض السرطان أو القلب هي بدورها من أنواع تكيف الجسم مع المؤثرات المحيطة به، وعلى العكس من ذلك فإن معرفتنا بالاكتئاب عند البشر تؤكد أنه مرض يصيب الإنسان ويمنعه من العمل بفاعلية.
قبل أن نتمكن من تأطير الاكتئاب ضمن نظرية التطور، لا بد أولاً أن نحاول فهم الخلل الذي يُصيب عملية التطور الطبيعية، مؤدياً إلى حدوث المرض.
ويكمن المفتاح في فهم هذه القضية في الحزن، إذ لا بد لأي نظرية أن توضح لماذا تنتج عن الأسى مشاعر وحالات تشبه في عدة أوجه حالة الاكتئاب، كما يؤكد فرويد، وهنا تخفق نظرية التراتب الاجتماعي. فلو قبلنا بفكرة أن الحزن انفعال طبيعي وكوني وتكيفي، فلن نجد مشكلة في تقبل أن الاكتئاب ما هو إلا حزن مرضي ينتج عن خلل ما في السيطرة على المشاعر المرتبطة بالحزن، وهكذا فالاكتئاب الناتج ليس تكيفياً، وإنما انفعال جديد مستقل لا يخضع لسيطرة المشاعر المرتبطة بالحزن، ويمكن أن يستمر حتى مع اختفاء المثير الأول الذي سبب انطلاق مشاعر الحزن.
هناك شعورٌ آخر مرتبط بالاكتئاب ألا وهو القلق، والقلق شعورٌ مزعج بتوقع الأسوأ والخوف منه قبل أن يقع، وهو يتجلى تحت الظروف التي يشعر فيها المرء بالتهديد وسط الصراعات أو في حالة الإحباط أو الشعور بالتهديد المادي أو فقدان المرء تقديره لذاته، والقلق رد فعل طبيعي إزاء المواقف الخطرة، لكن هذا الشعور الطبيعي يتحول إلى حالة مرضية إذا تكرر أكثر مما يجب، واستمر وجوده فترة طويلة، فيُصبح معيقاً للشخص عن مواصلة حياته الطبيعية، فيتحول إلى قلق خبيث عندما يستمر الشخص في توقع الأحداث السيئة دون داع على أرض الواقع.
أعتقد أن تعبير “الخبيث” مناسب جداً عند التعرض للحزن غير العادي، والقلق، والخوف، إذ يمكن لهذه المشاعر السلبية أن تنتشر وتحتل العمليات العقلية الأخرى، كما تفعل الخلايا السرطانية، كما أنها يمكن أن تؤثر تأثيراً جوهرياً على طريقة تفكير المصاب، ويمكن أن تؤثر كذلك بعضها على بعض.
مضادات الاكتئاب والعلاج البدني
الاكتئاب مرضٌ رهيب بالنسبة إلى من يعاني منه، ومن الضروري توفير العلاج المناسب له، وليس أدل على ذلك مما قدمته إليزابيث وارتز في وصف بشاعة هذا المرض بقولها: “يتعرض الفرد للكثير من الحوادث المؤسفة في حياته، فقد يُقدم على تحطيم زجاج النافذة بيديه، فتتطاير شظايا الزجاج الملوثة بالدم السائل من يديه، وربما يسقط من نافذة مفتوحة في الطابق العلوي، فتتهشم بعضُ عظامه ويُصاب بعدد من الجروح، لكن جبيرة مناسبة وبعض الغرز تفي بالغرض فتندمل الجروح.
غير أن الاكتئاب لا يُشبه أي من هذه الحوادث، وإنما هو أشبه بمرض السرطان الذي يبدأ بورم غير ملحوظ، ليتطور بسرعة إلى ورم ضخم في الرأس أو المعدة أو الكتفين، كفيلٌ بالقضاء على الشخص خلال أشهر، وكذلك هو الاكتئاب؛ إذ تتراكم المعطيات السلبية يوماً بعد يوم في قلب الشخص وعقله لتُفسد عليه مُتعة الحياة وتُنغص عليه أيامه دون أن يلحظ تسللها إلى نفسه…
هكذا حتى يصل المرء إلى نقطة يقفُ عندها ويفقد الرغبة في مواصلة حياته، لأنه يرى أنها حياة فظيعة لا تستحق العيش، وتنتابه المخاوف، ولا يقوى على مواجهة الغد… هذا بالضبط ما أريد أن أوضحه بشأن الاكتئاب، فهو لا يتعلق بما يُصيبنا في حياتنا من حزن أو ألم أو ندم، فكلها مشاعر طبيعية وإن كانت محزنة، أما الاكتئاب فهو حالة مختلفة تماماً، ينسحب فيها الشخص من حياته ويغيب بالكامل عن كل ما يحدث فيها، فيتحول المصاب بالاكتئاب السريري الشديد إلى جثة مفرغة من الحياة تمشي على الأرض”.
تُستخدم مضادات الاكتئاب على شكلٍ واسع في علاج الاكتئاب، ويرتكزُ عملها على زيادة أعداد الناقلات العصبية في الدماغ، ولا سيما السيراتونين، والنورادرينالين، ولا تخفى على أحدس بالطبع صعوبة تطوير العقاقير المعالجة للاكتئاب أو أي نوع من العقاقير الطبية، إذ يتطلب الأمر الكثير من الجهد والوقت للتعرف إلى فاعلية الدواء، وحصر جميع الأعراض الجانبية التي قد يُسببها، لأن ذلك غير ممكن إلا باستخدام الدواء على نطاق واسع.
أخيراً: أعتقد أن خبرتي مع مرض الاكتئاب تؤهلني لتوجيه بعض النصح للمرضى، لا بد من معرفة موسعة عن طبيعة الاكتئاب وأعراضه، إذ تدعمهم هذه المعرفة عند محاولة اختيار العلاج المناسب، وإذا تمكن المريض من ممارسة الرياضة، فإنني أنصحه ألا يتوانى عن ذلك لما فيه من فائدة، وكما يقول بيرتون في نهاية كتابه “تحليل الكآبة”: “لا تكن خاملاً”.