قضايا المرأة في الخطاب النسوي المعاصر
المؤلف: ملاك إبراهيم الجهني
الناشر: مركز نماء للبحوث والدراسات
عدد الصفحات:487
اخترت البحث في قضية (حجاب المرأة المسلمة) باعتبارها إحدى القضايا المتناولة في الخطاب النسوي بمساريه، “المسار النسوي العلماني، والمسار النسوي التوفيقي، الموسوم بالإسلامي”، إذ شكل الحجاب همّاً معرفياً نسوياً، وشغل حيزاً هاماً فيما بات يُعرف مؤخراً بحقل الدراسات النسوية، حيث تعددت مقاربات وأبعاد الحجاب في ذلك الخطاب ولم يعد محصوراً في بُعده الديني، بل تم التوسل بالدين نفسه لإثبات تاريخية الحجاب ومن ثم رفضه؛ ومن هنا ظهرت الحاجة لكشف تلك المقاربات والأبعاد، وفحص وتحليل منطلقاتها ومقولاتها، ودراستها دراسة علمية وافية.
منطلقات الخطاب النسوي المعاصر
ينطلق الخطاب النسوي في تناوله لقضايا المرأة من منطلقات نظرية، ومنطلقات منهجية إجرائية:
المنطلقات النظرية: تنطلق الخطابات النسوية في تناولها لقضايا المرأة من منظورين، هما: المنظور العلماني، والمنظور الإسلامي.
أولاً: المنظور العلماني: ترى النسويات المنتميات للاتجاه العلماني أن النسوية بالأصل حركة حقوقية مدنية ترفض إقحام الدين في ميدان الحركة النضالية، ولا يمكن أن تكون إلا علمانية؛ فالقرآن واضح بشأن تفضيل الرجل على المرأة في المجال الدنيوي وإن ساوى بينهما في المجال الروحي، ولذا فإن تناول قضية المرأة داخل الإطار الإسلامي يفرض التناقض بين المنظورين: (الإسلام، والنسوية)، مما يجعل التحرك النسوي خارج الإطار الإسلامي أمراً لا بد منه. وتحدد صاحبات هذا الخطاب الإطار المفهومي للعلمانية التي ينطلقن منها ويُطالبن بها في طرحهن، فتُعرّفها رجاء بن سلامة بقولها: “اللائكية لا تعني الإلحاد، بل تعني أن الشرعية السياسية لا يمكن أن تُستمد من الدين؛ لأن الممارسة السياسية لا بد أن تكون بشرية وإن نطقت باسم الدين، وتعني التفرقة بين الخاص والعام؛ لأن العام يجب أن يكون مشتركاً، وتعني حياد الدولة دينياً”.
وتؤكد فريدة النقاش، هذا المفهوم وتُضيف له بُعداً تأويلياً بقولها: “إن العلمانية لا تقطع مع الدين، بل تقطع بين الدين والسياسة، والعلمانية ليس الإلحاد، بل هي التأويل العلمي الواقعي للدين الذي يجعل منه طاقة تحرر وتقدم، لا عامل نكوص وتقوقع، ولا تخشى الطبقات الاستغلالية شيئاً مثل انتشار الفكر الحر القائم على التأويل الموضوعي للدين بين الجماهير”.
فالنسويات ينتقدن الخلط بين العلمانية والإلحاد، ويؤكدن على ضرورة التمييز بينهما باعتبار العلمانية مبدأً سياسياً يُسير الدولة دون الاستناد لمرجعية الدين في القانون، واعتبار الإلحاد موقفاً شخصياً يتعلق بضمير الشخص نفسه، وعليه فلا يجوز أن يكون الإلحاد تهمة يُحاسب عليها صاحبها، كما ينبغي أن يظل الدين – برأي النسويات – في دائرته الضيقة المحصورة بالعبادات دون أن يتدخل في القرار التشريعي.
المرجعية الحقوقية: يتمسك الخطاب النسوي العلماني بالمرجعية المدنية ممثلة في منظومة حقوق الإنسان بقيمها وأسسها الفكرية، وتصف رجاء بن سلامة حقوق الإنسان بالثوابت التي ينبغي أن ينبني عليها العقد الاجتماعي، وسبب ذلك انها ليست ثوابت جامد تحول دون تطور المجتمعات وتحرر الأفراد، على غرار الثوابت الدينية المُعيقة للفرد والمجتمع.
ومن أهم الثوابت المدنية: احترام مبدأ الحرية، ومبدأ المساواة:
الحرية: تستند الحرية إلى النظرية الفردية بفكرتها القائلة أن الفرد هو أفضل من يُقدر مصالحة الذاتية، ولذا ينبغي أن تتاح له أكبر مساحة من الحرية لتحقيق مصالحه الخاصة.
وقد استلهمت مُنظرات الخطاب النسوي العلماني في العالم الإسلامي هذه الرؤية وتبدت في مختلف معالجاتهن، ومنها قضية (الردة عن الإسلام)، أو حرية تغيير المعتقد في البلدان الإسلامية المتهمة من قِبل النسويات بمصادرة حق الفرد في تغيير معتقده.
وأزمة الحرية في المجتمعات العربية لا تتجلى فقط في حرية التفكير – بحسب الرؤية النسوية – بل في حرية السلوك المثقل بالقيود، فتحت عنوان: (نشيد النساء العربيات نحو الحرية) تتحدث فاطمة المرنيسي عن تلهف العربيات للحرية التي كن ينشدنها وهن سجينات ومقنعات، ولم يكن يصغي لهن أحد.
وترى النسويات أن حرية المرأة الجنسية وحقها في تقرير مصيرها مما يقف منه الإسلام موقفاً (عدائياً واضحاً)، كما في اشتراط الولي لإتمام عقد الزواج، وحبس المرأة أشهر العدة بوصفها ضمانة للأبوة.
وتنتقد آمال قرامي الموقف الإسلامي من المثلية الجنسية وتصفه بالسطحي والمرتمي في أحضان زمن الدعوة المحمدية.
كما ترى رجاء بن سلامة في سياق نقدها للموقف من المثليين والحرية الجنسية أن البيئة العربية لم تستفد من تقاليد الماضي الذي انتشرت فيه العلاقات المثلية كحب الغلمان في توفير بيئة تستوعب المثليين العرب.
المساواة: تنتقد النسويات الأسرة بوصفها مؤسسة سلطوية تقوم على التراتبية، والتفاوت الجنسي وتكريس سيادة الرجل وتبعية المرأة، وتغيب فيها المساواة استناداً لمبدأ القوامة (رئاسة الزوج)، وهذا الوجه البشع الخالي من القيم الإنسانية والمدعم بتراث نقلي اتباعي – من وجهة نظر النسوية – يُرسخ الخضوع والعبودية؛ فمبدأ القوامة يسلب كرامة المرأة حين يُمنح الرجل السيادة عليها بمقابل إعالتها.
وتشمل المطالبة النسوية بالمساواة التامة المساواة المادية والرمزية، وتعتبر النسوية رجاء بن سلامة عدم المساواة (عنفاً) وإن تمت تغطيته من قِبل الإسلاميين بأسماء أخرى كالتكامل والإنصاف، فهذه التسميات ليست سوى أقنعة زائفة.
ثانياً: المنظور الإسلامي: من التعريفات المطروحة للنسوية الإسلامية من قِبل المنتسبات إليها، أنها مجموعة الأساليب، وأنماط السلوك ذات الصلة بالعدالة، والمساواة الجنوسية، والمؤطرة بالقيم الإسلامية.
وتوضح أميمة أبو بكر – إحدى الكاتبات النسويات – ماهية النسوية الإسلامية بوصفها محاولة ذات شقين:
الشق الأول: يستخدم الوعي النسوي (بالتمييز ضد المرأة، والتراتب بين الجنسين لتأسيس طبقتين تهيمن إحداهما على الأخرى بوصفها الأدنى)، لرصد الظواهر والمفاهيم الناتجة عن الثقافة، والمنسوبة زوراً للدين الإسلامي.
الشق الثاني: لا يكتفي بالوعي الكاشف لتحيزات الثقافة ونقد المكتشف منها، بل ينتقل للاجتهاد الإصلاحي، وطرح البدائل من وجهة نظر المرأة المسلمة.
المرجعية الحقوقية: تؤكد النسويات الإسلاميات على اشتمال القرآن على المُثل والمبادئ العُليا المتعلقة بالحقوق الإنسانية، ويرين إمكانية تبني إطار (للمساواة والعدل) يتسق مع مقاصد الدين الإسلامي ومبادئ حقوق الإنسان.
وترى آمنة ودود أن المساواة تعني المعاوضة أو المعاملة بالمثل، ولا تتحقق في أسرة تقوم على التراتبية والقوامة.
وتدافع ودود عن هذا المنظور ولو أدى لتجاوز النص القرآني ذاته، الأمر الذي يُبرز بوضوح التفاوت الملحوظ بين التنظير ومدى الالتزام به عند التطبيق لدى النسويات الإسلاميات.
وترى أسماء المرابط أن التفاسير الإسلامية أعطت صورة نموذجية للأسرة بناء على آية القوامة ومفهوم الطاعة المترتب عليه لسيادة مفهوم ديني يحتقر النساء ويرسخ نظرة دونية للمرأة، وتندرج هذه الرؤية في إطار رؤية تقوم على المساواة الكاملة بين الرجال والنساء في شتى الأحكام الموصوفة من قِبل النسويات الإسلاميات بالأحكام التمييزية والتي لم تعد مناسبة للعصر – برأيهن -، ومن تلك الأحكام (ميراث المرأة).
أما أستاذة الشريعة الإسلامية في جامعة مراكش فريدة البناني، فترى أن قانون الأحوال الشخصية في المغرب ما زال يحتفظ بطابع اللامساواة بين الجنسين، ومن ذلك منعه المرأة المسلمة من الزواج بغير المسلم، الأمر الذي يحد من حرية المرأة في اختيار شريك حياتها.
وترى أميرة سنبل أن منح الرجل الحق بالتطليق حسب إرادته وعدم منح المرأة الحق نفسه تمييز خاص ضد النساء، وتدعم زينة أنور الرؤية ذاتها للمساواة في الأسرة والتي ينبغي أن يتفق فيها الزوجان على الدين الذي يُدين به طفلهما في حال تحول أحد الزوجين عن دينه.
المنطلقات المنهجية (الإجرائية)
الجنوسة (الجندر): تعود مفردة الجندر إلى أصل لاتيني يعني النوع، أو الأصل، ثم تحدرت سلالياً عبر اللغة الفرنسية في مفردة (gander) التي تعني النوع أو الجنس.
وهو مفهوم تمحورت حوله الدراسات النسائية في جميع المجالات، الطبية، والقانونية، والأدبية، والدينية والفنية والاقتصادية والسياسية…،
وقد ولدت مقولة الجنوسة من رحم الدراسات النسوية، وتُعدّ سيمون دي بوفوار أول من لفت النظر للاختلاف بين الجنسين بمقولتها المعروفة “لا تولد المرأة امرأة بل تُصبح كذلك”.
ولا تمثل الجنوسة للنسويات أداة للتحليل فقط، بل أداة لتفكيك البُنى المنتجة للتمييز، وقد مكنتهن من خلخلة مفاهيم الأنوثة والذكورة، وموقع المرأة داخل النظام الاجتماعي.
وقد أفادت نسويات العالم الإسلامي بمنظوريها العلماني والإسلامي من المفهوم على المستوى النظري واستعملنه في تحليلاتهن لوضع المرأة، وأشرن لأهميته للبحث النسوي، وفي هذا تقول رجاء بن سلامة: ” البحث في الجندر يمكننا من تعويض الماهوية البيولوجية بالبنائية الثقافية، بحيث يتبين لنا أن الاختلاف بين الرجل والمرأة مبني ثقافياً وإيديولوجياً وليس حتمية بيولوجية”.
وانطلاقاً من الجندر تحدثت مؤلفة كتاب (الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية: دراسة جندرية) عما سمته (مأسسة الجندر) في مجتمع الدعوة، وذلك عبر تناولها للأحاديث النبوية المؤسسة للاختلاف الثقافي، كالأحاديث المانعة للاختلاط، كما تحدثت عن جندرة العبادات، إذ أن كثيراً من أحكام الصلاة – برأيها – صناعة اجتماعية ليست في القرآن، وأن مثل هذه الأحكام المؤسسة للجندر كاختصاص الرجال بالتسبيح، والنساء بالتصفيق، تؤكد على أن المرأة “كائن دنيوي نادراً ما يرتقي إلى عالم المقدس”.
الاستشراق: يُشير مصطلح الاستشراق إلى الدراسة العلمية والأكاديمية الغربية لعلوم الشرق وثقافته ولغاته وآدابه. وهناك من يحصره في دراسة الشرق الإسلامي من وجهة نظر غربية ومن قِبل علماء غير مسلمين.
ويُعرف إدوارد سعيد الاستشراق بقوله: “الاستشراق أسلوب تفكير يقوم على التمييز الوجودي والمعرفي بين ما يسمى الشرق، وبين ما يسمى في معظم الأحيان الغرب”.
وينبغي القول بدءاً: إن المستشرقين ليسوا على درجة واحدة في موقفهم من الإسلام، فمنهم المتطرف والمعتدل؛ إلا أنهم ومهما كانوا على درجة من الحيادية والنزاهة فلا بد أن تسقط بحوثهم في خطأين: القصور في الفهم، وتدمير أسس هذا الدين نتيجة لانطلاقهم من خلفية علمانية مادية، أو خلفية دينية نصرانية أو يهودية، وكلا الخلفيتين تحولان دون فهم بعض الجزئيات والتفاصيل في العقيدة أو السيرة النبوية ونحوها.
وبالرغم من ذلك فإن من النسويات من تعتمد في دراستها لموضوعات المرأة في الإسلام على المراجع الاستشراقية كفاطمة المرنيسي، والتي استندت في كتابها (الحريم السياسي النبي والنساء) وكتاب (ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعية) لمؤلفات: جولد زيهر، وشاخت، ومونتغمري وات في السيرة النبوية، ومنهن من تنحو النحو الاستشراقي في التحليل والتفسير، ومن هؤلاء نائلة السليني صاحبة كتاب (تاريخية التفسير القرآني) التي اعتمدت فيه على مقولات ودراسات أساطين الاستشراق.
وتنحو نائلة السليني منحى المستشرقين وتنطلق من رؤاهم ومناهجهم ذاتها في دراستها للقرآن، ومن أبرز تلك الرؤى والمناهج:
- التشكيك فيما هو قطعي.
- الانتقاء في استعمال المصادر.
- الأثر والتأثر.
خلاصات: النسوية بين الإسلامية والعلمانية: النسوية الإسلامية مركب وصفي يتكون من مفردتين هما (النسوية) و(الإسلام)، فإذا كان المقصود بالنسوية – في نظر النسويات الإسلاميات – تيار منظم ينطلق من الوعي بالتمييز ضد المرأة والعمل على إصلاح وضعها في شتى المجالات، وإذا كان المقصود بوصف الإسلامية – في نظرهن – تحديد الإطار الذي تجري داخله عملية الإصلاح من خلال الاجتهاد وطرح البدائل من وجهة نظر المرأة المسلمة؛ فهذا أمرٌ مباح شرعاً، لكن الدعوى السابقة تكشفت عما وراءها بالوقوف على حقيقة المصطلحات المحورية التي ينهض عليها تعريف النسوية الإسلامية، والمذكورة في ثنايا الخطاب النسوي وتحرير مضامينها، والتي أسفرت عن المرجعية الحقيقية للتعريفات الدعائية للنسوية الإسلامية، وعلى رأسها مصطلح (المساواة) والمتصل بالقضية التي انبثق منها النضال النسوي في الغرب، واستدعته النسويات الإسلاميات وطبقته على نصوص القوامة والولاية والطلاق والإرث وغيرها. ومصطلح (الاجتهاد) الذي يمثل محور عملية الإصلاح وطرح البدائل والذي تحلل من مجاله التداولي الإسلامي ليُصبح مجرد غطاء شرعي زائف لإعادة قراءة النص بأدوات حداثية. أما الإسلام الذي تتحدث عنه النسويات عقيدة وشريعة فمجموعة قراءات تاريخية متراكمة قابلة للتحول والتكيف والانحناء للمفاهيم النسوية الغربية بمنظورها الحداثي الذي أشرق علينا بمنظومة حقوقية – تمثل من وجهة النظر النسوية – العدل المطلق، هذا العدل الذي لم يأتِ به النبي صلى الله عليه وسلم وغاية ما فعله – من وجهة نظر نسوية – هو نقل الناس مما كانوا يعدونه ظلماً في زمانهم إلى ما كانوا يعدونه عدلاً في زمانهم، ومن الجهل السائد في زمانهم إلى المعرفة المتناسبة مع العصر لا إلى عدل ومعرفة مطلقين. نسوية أصبحت فيها مقولة الجندر أحق بالعصمة من الخطأ من آي القرآن، نسوية تنطلق من القرآن ثم تتجاوز النص القرآني حين تخفق كبيرة منظراتها في تأويل آيات ضرب المرأة فيه، نسوية تؤول في النهاية إلى الاتفاق مع الموقف العلماني من قضايا المرأة، لذا فالنسب الأقرب لهذه النسوية هو العلمانية لا الإسلام. فوصف الإسلامية يقتضي أن تكون هذه النسوية مؤسسة عقدياً ومعرفياً وقيمياً على الإسلام، والنسوية الإسلامية ليست كذلك، والفرق الأساسي بينها وبين النسوية العلمانية هو الصلابة والليونة، فالنسوية الإسلامية ينطبق عليها وصف العلمانية اللينة وهي التي تبحث عن مبرراتها في التاريخ والثقافة والاجتماع والنصوص الدينية. ومن هنا فالمصطلح الأكثر دقة لهذه النسوية الحداثية هو النسوية التوفيقية لا الإسلامية.
إشكاليات الخطاب النسوي المعاصر
الإشكالية الثقافية: تدور حول عدة محاور يرتبط بعضها ببعض، ويُفسر بعضها بعضاً، وهي تُعنى بالمحضن الثقافي الذي نشأت ونمت وترعرعت فيه كل من العلمانية، والحداثة، والنسوية، وحقوق الإنسان في التاريخ الغربي. وسنتناول هذه الإشكالية عبر المحاور التالية:
– العلمانية بوصفها وليدة سياقات ثقافية تاريخية معينة: العلمانية من المفاهيم الخلافية التي كثر حولها الجدل وعدّها بعض الغربيين من أعسر المفاهيم، ومع ذلك فلا يكاد يوجد خلاف حول تشكّل مفهومها نتيجة للصراع الديني السياسي في أوروبا.
ولظهور العلمانية في الغرب سببان محوريان هما: جدلية العلم والدين، والتحولات الاجتماعية والصناعية والاقتصادية.
والدارس للإسلام عقيدة وشريعة وتاريخاً لا يجده قابلاً لاستزراع العلمانية في أرضه أو إقصائه لصالحها، وذلك لعدة أسباب أبرزها أن الإسلام لم يُخضع للتحريف الذي خضعت له المسيحية والذي تمثل في إدخال مكونات يونانية من قِبل من يسمون برجال الدين، وعدم وجود كهنوت في الإسلام أي سلطة أو هيئة تُشرّع في العقيدة، يُضاف إلى ذلك موقف الإسلام من العلم إذ جعله فريضة على كل مسلم ومسلمة، كما جعل الفكر عبادة.
أما ما تصفه النسويات بالعلمانية الدينية أو اللائكية الإسلامية فشكل من أشكال التضليل ليس إلا، فشريعة الإسلام الشاملة ليست كالمسيحية التي تلقاها الغرب عقيدة منفصلة عن الشريعة، والتي لم تحكم الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مجملها؛ إذ لم تحكم الشريعة حياة الناس إلا في الأحوال الشخصية، ومن ثم فإن استبعاد الدين من الحياة العامة لصالح العلمانية في الغرب كان في حقيقته استبعاداً لمفاهيم دينية دخلها التحريف واستبعاداً لتدخل رجال الدين في شتى جوانب الحياة. وليس استبعاد لدين حقيقي لم يألفه الغرب ولم يعرف صورته الحقيقية.
– الفكر التوفيقي بوصفه استجابة للاحتكاك الحضاري: تَمسُّك منظرات ورائدات النسوية الإسلامية المعلن بالهوية الإسلامية وتصريحهن بالانطلاق من القرآن بوصفه المصدر الأول، مع تأكيدهن على الوعي النسوي في خطابهن، يُصنف فكر (النسوية الإسلامية) مبدئياً في خانة الفكر التوفيقي، والذي عُرِّف بأنه: ” النهج القائم على التقريب بين المتعارضات والأضداد، أيّاً كانت حدة التباعد أو التناقض بينهما”.
كما استعاضت منظرات التوفيقة النسوية عن الأدوات المنهجية الإسلامية بالأدوات المنهجية الغربية وأدوات ما بعد الحداثة بوجه خاص، وتعاطين مع الأحكام الإسلامية وفقاً للمنهجية النسوية الهادفة؛ لإثبات تاريخية تلك الأحكام وتفكيكها لإبراز ما فيها من تأثيرات السلطة الأبوية والتحيزات الذكورية تجاه المرأة.
وإذا كان خطر التوفيقية الإصلاحية وجاذبيتها يكمنان في عدم انبتاتها الظاهر من المجموع الفقهي فتبدو وكأنها خلاف دائر في إطار إسلامي فروعي، فخطر التوفيقية النسوية وجاذبيتها يكمنان في عدم مصادمتها للوجدان الإسلامي الرافض للعلمانية بدعوى انطلاق هذه التوفيقية من الإسلام وبالإسلام. واستعمالها للمصطلحات الإسلامية مع تفريغها من محتواها، أي قطع العلاقة بين الدال والمدلول كما في استخدامها لمصطلح الاجتهاد مجرداً عن شرائطه وضوابطه المعروفة.
الحجاب في تطبيقات الخطاب النسوي المعاصر
تنوعت مقاربات الخطاب النسوي المعاصر للحجاب، وتشكّلت وعُرضت عبر عدة دوائر متداخلة، منها المقاربة التاريخية المتناولة للأبعاد أو (الجذور) التشريعية للحجاب الإسلامي، ومنها المقاربة السيميائية المتناولة للدلالات النفسية للحجاب، والمقاربة النصية الباحثة في النص الشرعي للحجاب.
الدرس النسوي في نقض الحجاب: يتجلى القسم الأكبر من تطبيقات الحجاب في الخطب النسوي الحداثي في المقاربات الناقضة لفرضية الحجاب والباحثة في أبعاده ودلالاته التاريخية والرمزية والنفسية والنصية، كما يتجلى ذلك بصورة أصغر في تدريس الطريقة التي يتحقق بها نقض الحجاب خطوة بخطوة، وتُعد رجاء بن سلامة من أبرز النسويات اللاتي مارسن تدريس المقاربة الجندرية في قضايا المرأة في نطاق الدراسات العليا في الجامعة، ولم يكتفين بتدريسها لطلابهن بل نقلن جهدهن التعليمي لنتاجهن الفكري فكتبن حول المنهج الأمثل لنقض الحجاب.
تصف رجاء بن سلامة الحجاب بالخرقة المقدسة التي نتمسك بها بكل ما أوتينا من عنف قداسي، والتي أدت وما زالت تؤدي إلى وأد النساء. وترى أن الحل المنهجي للتخلص من الحجاب يقوم على معيارية جديدة تضع منظومة حقوق الإنسان في الاعتبار، كما تضع أهمية التجربة الدينية في حياة الفرد في الاعتبار، فتفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي.
وترى رجاء بن سلامة أنه يكفي أن نطرح الأسئلة اليسيرة لكي تنهار المُسلّمات التي تحمي البداهة الزائفة للحجاب – برأيها – ومن تلك الأسئلة:
لماذا نطالب المرأة بتغطية رأسها وجسدها؟ أليس الرجل فاتناً من وجهة نظر المرأة إذا عُدت المرأة ذاتاً ناظرة والرجل موضوعاً منظوراً إليه؟
ألا تُعد قصة يوسف عليه السلام وقطع النساء أيديهن بسبب جماله دليلاً على أن الرجل مصدر فتنة للنساء؟
إذا كان الهدف من فرض الحجاب على المرأة هو إخلاء الفضاء العام من الرغبة، ونشر نوع من الأخلاق الصفوية فيه، أفليس من شأن هذا الشروع أن يبوء بالفشل، بما أن حجاب المرأة يختزلها في كونها أنثى، وتذكير الحجاب بأنها ممنوعة محرمة يؤجج هذا الاختزال ويغلق أبواب الصداقة والزمالة الخالي من التأثم والخوف؟
كيف يمكن التوفيق بين الحجاب والكرامة، والحال أن الكرامة أهلية ومسؤولية والحجاب ردع وليس مسؤولية؟
مناقشة الدرس النسوي في نقض الحجاب: إن كَشَف الدرس النسوي هنا عن شيء فقد كشف عن النزعة الإقصائية والتحكمية في الخطاب العلماني الذي يُبشر بجنة كونية تنتعش فيها التعددية وتُحترم الحريات، مع إقصاء المحجبات عن هذه الجنة التي لا تتسع لهن. فوحدهن النسويات من يملكن التأويل الصحيح والمطلق للحجاب وهو تأويل تفرّق ناطقوه وتوحدت مقولاتهم حوله؛ فلم يروا في الحجاب سوى تأثم وجنسٍ وجان.
ولا يخفى أن السبب في إخراج الجدل العلماني حول الحجاب للحجاب والنقاب كليهما من دائرة (الديني) إلى الدائرة الإنسانية هو كونها الطريقة الأنسب لزعزعة الفكرة الدينية وتجريد المحجبة من خياراتها الإيمانية، والحجر عليها وإلقائها في السجون المظلمة الواقعة خلف خطوط الحرية، هذه الحرية التي لا تستحقها المحجبات ولا يملكن فيها أجسادهن ولا الحق بالاختيار، بينما يستحقها الشواذ جنسياً والسحاقيات، والمتاجرات بأجسادهن.
على أن سبب ارتداء المرأة للحجاب والنقاب في بلاد تُعلي من شأن الحريات أو بلاد يُحارب فيها الحجاب غالباً سببٌ إيماني، ينبع عن قناعة المتحجبة شخصياً بخيارها الإيماني باعتبار مسؤوليتها الذاتية أمام الله تبارك وتعالى، وكم من محتجبة في الغرب أو في العالم الإسلامي تحتفظ بنقابها وإن لم تك ذات وليّ، فما الذي يحملها على ذلك؟ أليس الإيماني وحده ما يحملها على هذا رغن تعدد الخيارات وغياب الضامن للتطبيق؟ غير أن الإيماني يبدو – في نظر الرافضات للحجاب – ظاهرياً وسطحياً ولا يفي بالجواب، بينما تبقى الأسباب الحقيقية والدلالات الغائبة والمعاني العميقة المتكلفة للحجاب موجودة حصراً لدى الناقدات النسويات!
ولا يسعنا في النهاية إلا استدعاء ما سبق وأن ذكرته إحدى النسويات من أن النسوية لا تعتذر عمّا تروم تحقيقه، والمؤمنات – من باب أولى – لسن بحاجة للاعتذار عن التزامهن بما يتعلق بهن من أحكام ثبتت في كتاب الله وسنة نبيه، ومنها الحجاب.