تخطى إلى المحتوى

ملخص كتاب ميليشيا الإلحاد (الالحاد الجديد) + تحميل pdf

“مدخل لفهم الإلحاد الجديد”

أعترف أنني ظللت مدة من الزمن مُتحرجاً من فتح هذا الملف بشكل علني عام خشيةً من تفتيح أعين غُفلٍ عن جوانب أرى من الخير للإنسان أن يكون غافلاً عنها، مع قناعة بأن موجة الإلحاد التي كانت تضرب المجتمعات الغربية ستتمدد لتقرع أبوابنا لكني ما كنت أظن أن الأمر سيكون بهذه السرعة.

وحين بدأ الكلام يتخذ طابعاً علنياً في مشهدنا المحلي بعد بعض الحوادث الشهيرة المتصلة بهذا الموضوع، شرفني الشيخ سعد الغنام باستضافةٍ في ديوانيته الفكرية لتقديم رؤية حول الإلحاد الجديد، تلاه لقاءات ومحاضرات متعلقة بهذا الموضوع أهمها ندوة مطولة في ملتقى (تهافت الفكر الإلحادي)، والذي كان له أصداء طيبة، وقد اطلع الأحباب على شيء من هذه المواد السمعية والمرئية فشجعني على تسجيلها في كتاب، فكانت هذه الورقة، التي قصدت منها أن تكون مدخلاً موجزاً للتعريف بالظاهرة الإلحادية الجديدة، واطلاع المتلقي على أهم السمات والخصائص لها، وليس من قصدها أبداً معالجة كافة جوانب الظاهرة الإلحادية، ولا مناقشة الشبهات والإشكالات التي تطرحها، هذه الورقة إذن محاولة يسيرة لتعريف الدعاة والمشايخ وطلبة العلم والمربين والمفكرين بأهم التطورات التي لحقت بالخطاب الإلحادي، والذي جعلنا أمام خطاب إلحادي تم وصفه في الأدبيات الفكرية والعقدية الغربية بالإلحاد الجديد.

(الإلحاد الجديد، التطورات والسمات والخصائص)

أول من سك هذا الاسم، ووضع هذا المصطلح (الإلحاد الجديد)، هو (جيري وولف) في مقالة نشرها سنة 2006م في مجلة “وايرد” البريطانية بعنوان: “كنيسة غير المؤمنين” والعنوان الفرعي لها: “فرقة من الأشقاء فكرياً يُقيمون حملة ضد الإيمان بالله، هل نجحوا في كسب المتحولين؟ أم اقتصروا على التبشير بين جمهورهم؟”.

وقبل الخوض في ذكر سمات الإلحاد الجديد، أُقدم بالتنبيه إلى قضية تتعلق بمفهوم الإلحاد ذاته ليعرف القارئ بدقة المفهوم الذي تدور عليه هذه الورقة، فالإلحاد في أصل وضعه اللغوي دالٌ على معنى الميل والانحراف، ومن هُنا جُعلت هذه اللفظة توصيفاً للانحرافات العقدية العميقة والكبيرة خصوصاً في الكتابة العقدية التراثية؛ كاعتقاد الحلول والاتحاد، أو التعطيل المغالي لأسماء الله وصفاته، أو إنكار مبدأ النبوة…

ولذا فقد تنبه بعض الباحثين إلى أحد الفوارق بين نمط الإلحاد في الفضاء الغربي وحالته في الفضاء العربي الإسلامي وذلك في سياقات تاريخية متقدمة، فالمتهمون بالإلحاد في سياق التاريخ الغربي هم من المنكرين فعلاً لوجود الخالق جل وعلا، أما في السياق العربي الإسلامي فكثير ممن اُتهم بهذا الوصف ليس منكراً في الحقيقة لوجود الخالق تعالى، وإنما كثيرٌ منهم من أصحاب المنكرات العقدية الكبيرة كإنكار النبوة أو القول بالاتحاد أو غير ذلك، يقول عبد الرحمن بدوي مُنبهاً إلى طبيعة الإلحاد في الفضائين الغربي والعربي: (إذا كان الإلحاد الغربي بنزعته الديناميكية هو ذلك الذي عبر عنه نيتشه حين قال: (لقد مات الله)، وإذا كان الإلحاد اليوناني هو الذي يقول: (إن الآلهة المُقيمين في المكان المقدس قد ماتت)، فإن الإلحاد العربي هو الذي يقول: (لقد ماتت فكرة النبوة والأنبياء).

وفي العصر الحديث طرأ على مصطلح الإلحاد في البحث العقدي الإسلامي شيء من التطور ليقترن مفهومه بحالة عقدية خاصة وهي عدم الإيمان بوجود الخالق.

وحتى تتضح هذه المسألة بشكل أكبر، ونُدرك طبيعة الموقف الإلحادي من الإيمان بالله تعالى، فإن المواقف العقدية الممكنة من مبدأ وجود الله تعالى والنبوة، أربع مواقف عقدية رئيسة، وهي مرتبة من أشدها تنكراً لهذه المبادئ إلى المؤمنين بها:

  • الإلحاد الصلب، أو الإلحاد الإيجابي: وهو الإلحاد الذي يؤمن صاحبه بعدم وجود الخالق، وبالتالي يتنكر للوحي والنبوات، ولا يتدين بدين.
  • الإلحاد السلبي، أو اللاأدري: وهو الإلحاد الذي لا يؤمن صاحبه بوجود الخالق، لكنه أيضاً لا يؤمن بعدم وجوده.
  • الربوبية: وهو موقف عقدي يؤمن صاحبه بوجود خالق لهذا الكون، لكنه يُنكر صلة هذا الخالق بهذا الكون عبر الوحي والرسالة، فالخالق في هذا المنظور العقدي خلق العالم ثم تركه.
  • المؤمن المتدين: وهو الموقف العقدي الذي يؤمن صاحبه بوجود خالق لهذا الكون، كما يؤمن بالوحي والنبوات.

“السمة الأولى: الحماسة والحرص الشديد على الدعوة للإلحاد”

كان الإلحاد في سياقه التاريخي إجمالاً يُمثل خطاباً ميالاً نسبياً إلى قدرٍ من الحيادية من الموقف الديني، ولم يكن لديه تلك الحماسة لممارسة الدعوة والتبشير بقضية الإلحاد، بل كانت قضية الإيمان في حسه قضية شخصية مُتعلقة بالأفراد لا تستفز الملاحدة كثيراً، ولكن من لحظة اصطدام الطائرتين ببرجي التجارة العالمي تغيرت المعادلة، وترسخ في وعيّ كثير من الملاحدة أن قضية الإيمان والتدين باتت مهدداً حقيقياً للبشرية، وأنه من المتعين على الملاحدة السعي جدياً في استئصال مبدأ التدين من الحياة البشرية، وإحلال قضية الإلحاد كخيار مُنقذ.

التأليف والكتابة: حيث انهمرت مجموعة من التآليف المتعددة والتي شكلت القوة الدافعة للإلحاد الجديد، ونواته الصلبة، واستطاعت أن تخترق الفضاء العام بسبب جودة الأسلوب، ووضوح الأفكار، ومباشرة الطرح. وقد برز بسبب هذه التآليف مؤلفوها كرموز للإلحاد الجديد، والذين صاروا يشكلون العمود الفقري لهذه الظاهرة العقدية الجديدة، وأهم هذه الكتب، والتي يمكن أن يُقال أنها فجرت الظاهرة الإلحادية الجديدة:

  • كتاب “نهاية الإيمان” لسام هارس، المختص في مجال علوم الأعصاب، وهي كتابة نقدية غاضبة للظاهرة الدينية عموماً، وكيف أنها تُشكل بحسب دعوى المؤلف معوقاً هائلاً عن التفكير المنطقي العقلاني، وحاضناً للممارسة الإرهابية.
  • كتاب “وهم الإله” للبيلوجي الدارويني الشهير ريتشارد دوكنز، يُعالج الكتاب مسألة وجود الله، والذي يعتبره المؤلف وهماً.
  • كتاب “الله ليس عظيماً، كيف يُسمم الدين كل شيء” للصحفي كريستوفر هيتشنز، والذي ظهر في 2007م، ويُمثل الكتاب هجوماً شرساً على الأديان في محاولة لربط كافة الشرور بها.

هذه أهم الكتب التي تُشكل القاعدة التي تأسست عليها ظاهرة الإلحاد الجديد، وهي كما ترى متنوعة تعمل على مسارات متعددة، كما أن مؤلفوها ذو تخصصات مختلفة، وهذا الاختلاف ساهم في مزيد من التأثير والانتشار.

البرامج الفضائية والإذاعية: أنتج الملاحدة عدداً غير قليل من البرامج الإعلامية المتنوعة، ما بين برامج حوارية، وأفلام تعليمية ووثائقية. كما أن ثمة أفلام كرتون للأطفال تقوم بتسريب مضامين إلحادية في قوالب غير مباشرة، ومواقع إلحادية مصممة للأطفال، تستهدف الأطفال الصغار، والمراهقين، والوالدين وتُقدم التوجيهات والإرشادات والمواد الإلحادية.

“السمة الثانية: عدائية الخطاب الإلحادي الجديد”

من الملاحظات المهمة التي يمكن تسجيلها حول ظاهرة الإلحاد الجديد، ولعلها تُمثل الصفة المركزية المميزة لهذه الظاهرة، تلك اللغة شديدة العدائية للدين، ولمبدأ التدين، ولقضية الإيمان بالله، حتى تم توصيف الظاهرة الإلحادية الجديدة في بعض الدوائر الفكرية الغربية بــ (ميليشيات الإلحاد)، فالملاحدة الجدد ينطلقون في تعاملهم مع الدين من رؤية ترى فيه منبعاً للشرور والكوارث، وأنه من الواجب السعي بجدية في محاربته، ومن هنا سُميت سلسلة الأفلام الوثائقية الإلحادية الشهيرة لريتشارد دوكنز بـ (جذور الشرور كلها) ويقصد بهذا الجذر (الدين والإيمان)، ومثله كريستوفر هيتشنز والذي جعل لكتابه GOD is not Great عنواناً فرعياً يقول فيه: (كيف يُسمم الدين كل شيء) ويرى في العنوان تعبيراً حقيقياً عن نظرته للدين، فيقول: (هنالك بالتأكيد طُرق متعددة تكشف أن الدين ليس فاقداً للحس الأخلاقي فحسب، بل يدفع دفعاً إيجابياً للفساد الأخلاقي).

ونتيجة لمثل ذلك التصور شديد القتامة عن التدين في التصور الإلحادي الجديد، فإن موقفهم سيكون واضحاً حيال الموقف الديني، فهذا ريتشارد دوكنز يقول بصراحة: (أتمنى حقاً أن أرى الدين يزول تماماً).

هذه النفسية شديدة العدائية للدين تظهر في طبيعة اللغة المُستخدمة عند كثير من رموز الإلحاد الجديد وأتباعهم، فالبجاحة والوقاحة والتحقير سمات شديدة الحضور في كثير من الخطابات الإلحادية الجديدة.

وريتشارد دوكنز نفسه يؤصل لهذا المبدأ عبر كلمة له في أحد التجمعات الإلحادية ختمها موصياً الملاحدة بما يلي: (اسخروا منهم، واستهزؤا بهم علانية، إياكم أن تقعوا في فخ العُرف الدارج أننا مؤدبون جداً لنتحدث عن الدين، الدين ليس مرفوعاً عن الطاولة، ولا هو خارج عن حدود النقد، الدين يُقدم تصورات معينة عن الكون والتي تحتاج إلى التثبت منها، ينبغي تحديها والسخرية منها باحتقار).

“السمة الثالثة: استعمال أداة الإرهاب في حرب الأديان”

من الأسئلة التقليدية التي يفضي بها الخطاب الديني اتجاه الملاحدة السؤال التالي: تخيلوا عالماً بلا دين؟ وبلا إيمان؟ كيف ستكون أحوال البشرية؟ وما الذي سيولّد حالة الانضباط الأخلاقي عند الناس؟ تأتي هذه الأسئلة كمحاولة للتأكيد على أهمية البُعد الديني في حياة الناس، وكارثية التفلت الأخلاقي الذي سيتولّد نتيجة إلغائه واعدامه من الوجود.

فيسعى الخطاب الإلحادي اليوم عبر إيراد ذات السؤال: تخيلوا عالماً بلا دين؟ إلى إثارة الشبهات حول الموقف الديني وقلب الطاولة عليه.

لن تكون هناك محاكم تفتيش، ولا حروب صليبية، ولا صراع عربي إسرائيلي، ولا 11 سبتمبر…الخ هكذا يُجيب الملاحدة الجدد، فينقلب الخطاب الديني ليكون في موقف الدفاع عن موقع الأديان في الحياة الإنسانية بدل أن يكون السؤال هجومياً مُحرجاً للخطاب الإلحادي.

“السمة الرابعة: الهجوم اللاذع على دين الإسلام”

بعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر، وربط الحدث بالإرهاب، والإرهاب بالإسلام، انتقل الإسلام من كونه قضية على هامش اهتمام الملاحدة الغربيين، ليكون في فوهة مدفع الإلحاد الجديد، وليحظى بموقع شديد التقدم في حرب الملاحدة الجدد على الأديان.

فهذا سام هارس يقول بوضوح: (بأن فكرة الحرب على الإرهاب لا معنى لها). (وأنه حان الوقت للاعتراف بأننا لسنا في حرب مع الإرهاب وإنما في حرب مع الإسلام). بل يقول: (إننا في حرب تحديداً مع الرؤية للحياة التي يُحددها القرآن لكل المسلمين، لسنا نقول بأننا في حرب مع جميع المسلمين لكننا قطعاً في حرب مع ملايين ليس لهم صلات مباشرة بالقاعدة).

وحتى يتضح عمق مشكلتهم مع المسلمين فإن كريستفر هيتشنز وفي أكثر من مناسبة يقوم بسؤال المُناظر النصراني أو اليهودي أيهما تُفضل: أن أكون مُسلماً أو مُلحداً؟ أو يسأل: أيهما تُفضل أن تُحكم أوروبا بالشريعة أم بالعلمانية الملحدة؟ أو يقول: في أي دولة إسلامية اليوم تود أن تعيش؟ وهي أسئلة تنم عن حالة الاحتقار الشديد للإسلام والمسلمين. الطريف أنه وفي أحد المناظرات التي عقدها مع أحد اليهود طرح عليه هذا السؤال فكان جواب اليهودي: أُفضل أن تكون مسلماً معتدلاً.

أما الجهل بتفاصيل التشريعات الإسلامية فشيء عجيب، فهذا دوكنز في آخر اللقاء يُعبر عن استغرابه الشديد من بواعث التدين بدين الإسلام والذي يُحرِم الإنسان من مُتع الحياة وبهجتها، ويُمثل بتحريم الإسلام للموسيقى والرقص (واللعب بالطائرة الورقية!) ومثل هذا الحديث يدل على أن حالة العداء الشديد التي يُبديها الخطاب الإلحادي ناتج في أجزاء كبير ة منه عن جهلٍ شديد بدين الإسلام، وواقع المسلمين، وأن ثمة إرادة حقيقية للتشويه دون أداء أدنى واجبات البحث والدراسة، والصدور عن تصور سليم للمشكلة.

“السمة الخامسة: جاذبية الإلحاد الجديد”

لقد أضحى رموز الإلحاد الجديد أيقونات تحظى بالمعجبين والمعجبات، خصوصاً مشاهيره الأربعة (ريتشارد دوكنز، وسام هارس، وكريستوفر هيتشنز، ودانيل دينيت) والذين باتوا يُعرفون في كثير من الدوائر الغربية بالفرسان الأربعة، وهو مصطلح توراتي يُشير إلى ظهور فرسان أربعة كعلامة لنهاية العالم.

(الاقتراب بالعدسة محلياً: الإلحاد وشبابنا)

يمكن أن يلحظ المُراقب للحالة الدينية والعقدية محلياً أن ثمة حالة من حالات التمرد ضد القيم والمبادئ الدينية في بعض الدوائر والشرائح، وهذه الحالة في تقييمي آخذة في التوسع – في هذه المرحلة – خصوصاً بين القواعد الشبابية، وذلك لمعاملات متعددة، أهمها هذا الانفتاح المعرفي الهائل، والذي يُحقق دوراً تثقيفياً حقيقياً إلى حدٍ ما، كما يخلق حالة من وهم الثقافة أيضاً، فكثير من الشرائح الشبابية بات يتلقى معرفة أُفقية سطحية في ملفات متعددة، ويُحصّل عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي جُرعات معلوماتية مخففة ومبعثرة، تخلق مع الوقت حالة من الانتفاخ المعرفي الخاوي. هذه الحالة أوجدت شعوراً مع الوقت بأن هامش الفرق بينهم وبين طبقة الدعاة وطلبة العلم والمفكرين والمثقفين ما عادت كما كانت، وأضحت الصورة النمطية للخطاب المشيخي في وعي الكثيرين صورة سلبية قاتمة أثمرت للأسف مع الوقت حالة من عدم الرضى عن الخطاب القائم أو سخطاً عليه. وقد زاد من حدة الإشكالية الماضية عوامل متعددة أخرى كغلبة القيم المادية العلمانية وهذا المزاج الليبرالي المهيمن في عالمنا اليوم، والذي يؤدي في حالات ضعف الممانعة إلى إعادة تشكيل العقول والتصورات في ضوئها، ويتسبب ليس في منافرة الخطاب الشرعي في شقه البشري فحسب بل قد يحمل صاحبه على منافرة بعض القيم والمبادئ الشرعية الثابتة.

وأحسب أن إدراك هذه المسألة في غاية الأهمية فجزٌ من مسببات انتشار الظاهرة الإلحادية عالمياً يعود في حقيقته إلى السياق الثقافي العام الذي نعيش فيه والذي تُهيمن عليه للأسف الشديد قيم الحضارة الغربية، بماديتها وعلمانيتها.

ينضاف إلى هذا العامل أيضاً، واقع التخلف الحضاري، والحرمان من الحقوق المطلوبة، والحُريات المشروعة، والتي تزيد من حالة الاحتقان لدى كثير من القواعد، وتدفعهم للتفتيش عن خيارات بديلة تسهم في تحقيق النهضة ورفع الظلم.

(عدم تسطيح الظاهرة الإلحادية)

من القضايا المهمة في تناول الظاهرة الإلحادية عدم تسطيحها، فهي ظاهرة معقدة مركبة، وبالتالي تستدعي نظراً مركباً، فليس صحيحاً مثلاً أن جميع الملاحدة إنما ألحدوا محبة للشهوات وطلباً للتخفيف من سطوة الضمير، بل أسباب الإلحاد متنوعة وفي كثير من الأحيان لا تكون عائدة إلى عامل واحد.

وحتى تُدرك إشكالية التسطيح لظاهرة الإلحاد محلياً، وأنها مشكلة حقيقية سواءً على مستوى تشخيص الظاهرة أو تحليلها أو التفتيش عن بواعثها وعلاجها، فقد سُئلت مراراً ممن له قريب اُبتلي بالإلحاد، (هل لديك محاضرة، أو كُتيب، أو مطوية يمكن أن تكون سبباً في هدايته؟!) والحق أننا أمام ظاهرة الأصل فيها أن تستدعي علاجاً أكثر عمقاً من مُجرّد كُتيّب أو مطوية، أو مقطعٍ مرئي في خمس دقائق.

ومن السطحية في تناول الظاهرة أيضاً، سطحية التناول العلمي لها، إما بسطحية الإدراك لمقولاتها، أو بضعف الاستجابة والرد على تلك المقولات، فمن الأمثلة المعبرة عن سطحية التناول لبعض مقولات الملاحدة ما يُمارسه البعض من نقد سطحي ساذج لنظرية التطور، كقول بعضهم: فلماذا لم تتطور القرود مثلنا؟ أو القول: فلما لا نشاهد التطور أمامنا. أو الاعتراض: فلما لا نرى إنساناً مولوداً من القردة؟ وهكذا فهذا النمط من الاعتراضات يُعبر عن إشكالية حقيقية في فهم ما يقوله التطوريون بما يؤدي ضرورة إلى هذا اللون من الاعتراضات السطحية.

ومن الأمثلة المتعلقة بنظرية التطور أيضاً، والتي تكشف عن ضعف الوعي بطبيعة المقولات الإلحادية أحياناً وما يترتب عليها من آثار ولوازم، ما يقع أحياناً من تناول لسؤال الصلة بين الداروينية والإلحاد؟ بمعنى هل من لازم الداروينية إنكار وجود الخالق تعالى؟ أم أنها لا تتعارض ضرورة مع مبدأ الإيمان؟ فالتناول المتعجل في تقديم الجواب، بالنفي أو الإثبات، دون نظر علمي معمق في المقولة والواقع وبحثٍ جاد، سيوقع المتكلم في إشكالات معرفية حقيقية. إذ مثل هذه السؤالات يحتاج إلى قدرٍ من التأمل أولاً ثم إلى شيء من التحليل والتفصيل ليكون الجواب أكثر دقة وانسجاماً مع الواقع.

(ضرورة تقديم رؤى نقدية هجومية وعدم الاكتفاء بالمدافعة)

مما ينبغي مراعاته في سجال الإلحاد أن لا يكون موقف المنتصر للموقف الديني انهزامياً مكتفياً بالمدافعة فقط، بل ينبغي أن يكون مُنطَلق المؤمن في جدله من تصور عقدي صلب يستحضر في نفسه معنى قوله تعالى: (أفي اللهِ شكٌ فاطرِ السماواتِ والأرض)، فالقضية التي يُدافع عنها ليست قضية هامشية أو ظنية بل هي أم اليقينيات الدينية.

فلا بد أن يتسم الخطاب الشرعي بالوثوقية العالية في دعوته، وأن يكون له أيضاً خطابه الهجومي والذي يكشف من خلاله الإشكالات والثغرات الهائلة الموجودة في بُنية التصور الإلحادي وخطابه. فالتيار الإلحادي تيار هدمي، يسعى أفراده إلى هدم التصورات الدينية دون أن يُقدموا فلسفتهم الخاصة للوجود، ومتى ما سعوا في ذلك فمن السهل ملاحظة حالة التعجل والسطحية والحيدة عن مواطن الإشكال، وحتى لا يكون الكلام مرسلاً ويبقى معلقاً دون شواهد، إليك شيئاً من النماذج والأمثلة التي تكشف عن عمق الإشكال في الفلسفة الإلحادية، وكيف أن الملاحدة في فورة الحماسة لنقض المفاهيم الدينية لا يُقدمون جهداً كافياً للتفكير في كثير من الأسئلة الصعبة، فضلاً عن تقديم إجابات معمقة حيالها.

–          الإلحاد والسؤال الأخلاقي: إذا كان الملحد يعتقد أن وجود الكون ووجود الإنسان إنما هو نتيجة للصدفة العمياء، فما هو المبرر العلمي أو العقلي لاعتقاد وجود مثل هذه القيم الأخلاقية المطلقة، وكيف يمكن تفسير هذا الشعور الفطري الضروري عند الناس بتعالي هذه القيم على وجودهم، فيدركون الحسن منها ويدركون القبيح.

وملاحدة اليوم يقدمون أنفسهم باعتبارهم (إنسانيون هيومانيين)، ويُبدون قدراً من الصلابة الأخلاقية في خطاباتهم حيال ما يعتقدونه صواباً وخطأً، دون أن يوضحوا القاعدة التي تتأسس عليها هذه الصلابة الأخلاقية، وإذا أرادوا التوضيح أحياناً فإما أن يقعوا في إشكالية التبرير النفعي البراغماتي للأخلاق والذي يُفقد القيم الأخلاقية قيمتها، أو يقعوا في تقرير نسبيتها بما يفقدها قيمتها المطلقة، ويفقدهم مبرر هذه الصلابة الأخلاقية التي يظهرونها والحماسة الكبيرة في دعوتهم لقيمهم الأخلاقية. وللدكتور المسيري تعليق طريف على هذه الحالة تكشف عن شيء من خفايا النفس هنا حيث يقول: (الفلسفة الهيومانية في الغرب، بتأكيدها القيم الأخلاقية المطلقة ومقدرة الإنسان على تجاوز واقعه الطبيعي/ المادي وذاته الطبيعية/ المادية، تعبير عن الإله الخفي وعن البحث غير الواعي من قِبل الإنسان المادي عن المقدس، فمثل هذه القيم، ومثل هذه المقدرة ليس لهما أساس مادي).

الملاحدة وسؤال الوعي وإدراك الذات: مسألة الوعي والإدراك وكيف تشكل في ضوء النظرة المادية قضية محيرة، إذ كيف يُنتج الدماغ بعناصره المادية المحضة مثل هذا النشاط، فتتحقق حالة الوعي بالذات، وإدراك الهوية الذاتية للفرد، إضافة إلى إدراك العالم الخارجي، والتعرف على الذات والمفارق، والأنا والآخر. بل إن بعض الملاحدة يُبدي قدراً من التشاؤم من إمكانية أن يُجيب العلم على مثل هذا السؤال، مع ذلك يرفض قبول التفسير المُتعقل لهذه الظاهرة وهي أن الله جل وعلا هو الذي أحدثها.

الرؤية الإلحادية للوجود مليئة بالثغرات، وهذه الثغرات كثيرة وكبيرة، لا يصح التوقف فقط في مناقشة هذه الظاهرة عند حدود سؤال الخالق، بل ينبغي الغوص في دراسة مآلات وآثار هذا التنكر لوجود الخالق على البُنية المعرفية، والرؤية الكونية، والموقف من الأسئلة الغائية والقيم الأخلاقية وغيرها. وأن الله ليس هو الوهم الوحيد في التصور الإلحادي، بل القيم الأخلاقية المطلقة وهم، والإرادة البشرية الحُرّة وهم، ومعنى الوجود وغاياته وهم، والمبادئ العقلية الأولية وهم، وحالة الوعي بالذات وهم. والأمر كما عبر الملحد (ويل بروفاين) بروفيسور تاريخ علم الأحياء بشكل واضح صريح: ( لا آلهة، لا حياة بعد الموت، لا قاعدة حقيقية للأخلاق، لا معنى نهائي للحياة، ولا إرادة حرة للإنسان، إننا مرتبطين جميعاً على نحوٍ عميق بالمنظور التطوري، أنت هنا اليوم وسترحل في الغد، وهذا كل ما في الأمر).

الخاتمة

في الثامن من أبريل سنة 1966م نشرت مجلة التايم الأمريكية عددها الشهير والمثير للجدل، والذي كان عنوانه الرئيس: “هل مات الإله؟” لتعود ذات المجلة في السادس والعشرين من ديسمبر سنة 1969م لتضع على غلافها عنوناً مضاداً تماماً “هل الله عائد إلى الحياة؟”.

وبعد ثلاثين سنة قامت (مجلة إكونومست) في عددها المخصص للألفية الثانية بكتابة نعي لله لتعود بعدها بثمان سنوات لتكتب على غلافها “باسم الله” مُعترفة بأن الدين سيلعب دوراً حقيقياً فاعلاً في عالمنا المعاصر.

نعم…

لقد قالها نيتشه من قبل: مات الإله!

لكن نيتشه مات.

وتبعه ملاحدة كثر.

والله حيٌّ لا يموت

تحميل كتاب ميليشيا الإلحاد: مدخل لفهم الإلحاد الجديد pdf

ميليشيا الإلحاد PDF كامل