معلومات كتاب الفوائد
ملخص كتاب الفوائد الإمام ابن قيّم الجوزية
دأب العلماء على جمع ما يستحسنونه – مما طالعوه في كتاب أو استفادوه من جليس أو تلقوه من شيخ أو انقدح في أذهانهم من فكر – في مجموع غير موحد الموضوع لكن عميم الفائدة، وأهمية هذه المجاميع إضافة إلى قيمتها العلمية تكمن في كونها زاداً خفيف الحمل عميم النفع، يتنقل فيه المطالع من مبحث إلى آخر دون مظنة ملل أو صارف من إطناب.
ومن جملة هذه الكُتب التي ذاع صيتها، كتاب “الفوائد” للإمام الشيخ ابن قيّم الجوزية، وهو على صغر حجمه حوى مطالب عالية يندر وجودها مجتمعة في مصنف واحد، ويمكن اختصارها في أقسام ثلاثة:
أ. الحِكم والوصايا.
ب. تفسير بعض الآيات القرآنية.
ت. رقائق وزهديات.
وليس ما ذكرناه هو كل ما في الكتاب، فقد يجني مُتصفحه دقائق ولطائف تؤكد ما ذهب إليه المؤلف من تسمية كتابه بالفوائد.
(قاعدة جليلة: الانتفاع بالقرآن)
إذا أردت الانتفاع بالقرآن: فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألقِ سمعك، واحضر حضور من يُخاطبه به من تكلّم به سبحانه منه إليه؛ فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله، قال تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد)
قوله: (لمن كان له قلب)، المراد به القلبُ الحيّ الذي يعقل عن الله، كما قال الله تعالى:
(إن هو إلا ذكرٌ وقرآن مبين “69” ليُنذر من كان حيّاً) أي حيَّ القلب.
وقوله: (أو ألقى السمع)، أي وجه سمعه، وأصغى حاسة سمعه إلى ما يُقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام. وقوله: (وهو شهيد)، أي شاهد القلب، حاضرٌ غير غائب.
فإذا حصل المؤثر، وهو القرآن، والمحل القابل، وهو القلب الحي؛ ووجد الشرط، وهو الإصغاء؛ وانتفى المانع، وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر، حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر.
فإن قيل: إذا كان التأثير، إنما يتمّ بمجموع هذه، فما وجه دخول أداة “أو” في قوله (أو ألقى السمع)، والموضع موضع واو الجمع لا موضع “أو” التي هي لأحد الشيئين؟
قيل: هذا سؤال جيد، والجواب عنه: أن يُقال: خرج الكلام بأو باعتبار حال المخاطب المدعو، فإن من الناس من يكون حيّ القلب واعيه تام الفطرة، فإذا فكّر بقلبه وجال بفكره، دله قلبه وعقله على صحة القرآن وأنه الحق، وشهد قلبه بما أخبر به القرآن، فكان ورد القرآن على قلبه نوراً على نور الفطرة، وهذا وصف الذين قيل فيهم: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل إليك من ربك هو الحق).
ومن الناس من لا يكون تام الاستعداد، واعي القلب، كامل الحياة؛ فيحتاج إلى شاهد يميز له بين الحق والباطل، ولم تبلغ حياة قلبه ونوره وزكاء فطرته مبلغ صاحب القلب الحيّ الواعي؛ فطريق حصول هدايته أن يفرغ سمعه للكلام، وقلبه لتأمله والتفكر فيه وتعقل معانيه؛ فيعلم حينئذٍ أنه الحق.
فائدة جليلة
(تفسير آية: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً)
قوله تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)
أخبر سبحانه أنه جعل الأرض ذلولاً مُنقادة للوطء عليها، وحفرها، وشقها، والبناء عليها؛ ولم يجعلها مُستعصية ممتنعة على من أراد ذلك منها. وأخبر سبحانه أنه جعلها مِهاداً، وفراشاً، وبِساطاً، وقراراً، وكِفاتاً. ومن بركتها أن الحيوانات كلها وأرزاقها وأقواتها تخرج منها.
ومن بركتها أنها تحمل الأذى على ظهرها، وتُخرج لك من بطنها أحسنُ الأشياء وأنفعها؛ فتواري منه كل قبيح، وتخرج كل مليح.
والمقصود: أنه سبحانه جعل لنا الأرض كالجمل الذلول الذي كيفما يُقاد ينقاد.
وحُسن التعبير بمناكبها عن طرقها وفجاجها من وصفها بكونها ذلولاً؛ فالماشي عليها يطأ على مناكبها وهو أعلى شيء فيها؛ ولهذا فُسرت المناكب بالجبال كمناكب الإنسان وهي أعاليه.
ثم أمرهم أن يأكلوا من رزقه الذي أودعه فيها؛ فذلّلها لهم، ووطّاها وفتق فيها السُبل والطرق التي يمشون فيها، وأودعها رزقهم؛ فذكر تهيئة المسكن للانتفاع والتقلب فيه بالذهاب والمجيء والأكل مما أودع فيه للساكن. ثم نبه بقوله (وإليه النشور) على أنّا في هذا المسكن غير مستوطنين ولا مقيمين، بل دخلناه عابري سبيل، فلا يحسن أن نتخذه وطناً ومستقراً، وإنما دخلناه لنتزود منه إلى دار القرار.
فتضمنت الآية الدلالة على ربوبيته، ووحدانيته، وقدرته، وحكمته، ولطفه، والتذكير بنعمته وإحسانه، والتحذير من الركون إلى الدنيا واتخاذها وطناً ومستقراً، بل نسرع فيها إلى السير إلى داره وجنته.
(فائدة: الضدان لا يجتمعان)
وهذا كما أنه في الذوات والأعيان، فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات. فإذا كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقاداً ومحبة، لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع. كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع، لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه، إلا إذا فرّغ لسانه من النطق بالباطل. وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة، لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرّغها من ضدها.
فكذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والأنس به، لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه، إلا بتفريغه من تعلقه بغيره. ولا حركة للسان بذكره والجوارح بخدمته إلا إذا فرّغها من ذكر غيره وخدمته.
فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق، والعلوم التي لا تنفع، لم يبقَ فيها موضع للشغل بالله، ومعرفة أسمائه، وصفاته، وأحكامه. وسرُّ ذلك أن إصغاء القلب كإصغاء الأذن؛ فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء ولا فهم لحديثه، كما إذا مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميلٌ إلى محبته.
(فائدة: عبر وحِكم بالغة)
من فقد أُنسه بين الناس، ووجده في الوحدة، فهو صادقٌ ضعيف.
ومن وجده بين الناس، وفقده في الخلوة، فهو معلول.
ومن فقده بين الناس، وفي الخلوة، فهو ميتٌ مطرود.
ومن وجده في الخلوة، وفي الناس، فهو المُحب الصادق القويّ في حاله.
ومن كان فتحه في الخلوة لم يكن مزيده إلا منها.
ومن كان فتحه بين الناس ونصحهم وإرشادهم كان مزيده معهم.
ومن كان فتحه في وقوفه مع مراد الله حيث أقامه وفي أي شيء استعمله كان مزيده في خلوته ومع الناس:
فأشرف الأحوال أن لا تختار لنفسك حالة سوى ما يختاره لك ويُقيمك فيه؛ فكن مع مراده منك، ولا تكن مع مرادك منه.
(معرفة الله والإعراض عنه)
من أعجب الأشياء: أن تعرفه ثم لا تُحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن الإجابة، وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تُعامل غيره، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأُنس بطاعته، وأن تذوق عصرة القلب عند الخوض في غير حديثه والحديث عنه ثم لا تشتاق إلى انشراح الصدر بذكره ومناجاته، وأن تذوق العذاب عند تعلّق القلب بغيره ولا تهرب منه إلى نعيم الإقبال عليه والإنابة إليه!
وأعجبُ من هذا: علمك أنك لا بدّ لك منه، وأنك أحوج شيء إليه، وأنت عنه مُعرض، وفيما يُبعدك عنه راغب!
(قاعدة: الحبس المُفيد)
طالبُ الله والدار الآخرة لا يستقيم له سيرهُ وطلبهُ إلا بحبسين: حبس قلبه في طلبه ومطلوبه، وحبسه عن الالتفات إلى غيره. وحبس لسانه عمّا لا يُفيد، وحبسه على ذكر الله ما يزيد إيمانه ومعرفته. وحبس جوارحه عن المعاصي والشهوات، وحبسها على الواجبات والمندوبات.
فلا يُفارق الحبس حتى يلقى ربه، فيُخلصه من السجن إلى أوسع فضاء وأطيبه. ومتى لم يصبر على هذين الحبسين، وفرّ منهما إلى فضاء الشهوات، أعقبه ذلك الحبس الفظيع عند خروجه من الدنيا؛ فكل خارج من الدنيا، إما متخلص من الحبس، وإما ذاهب إلى الحبس.
ودّع ابن عونٍ رجلاً فقال: عليك بتقوى الله؛ فإن المتقي ليست عليه وحشة.
وقال زيد بن أسلم: كان يُقال: من اتقى الله أحبهُ الناس وإن كرهوا.
(حكمة جعل آدم آخر المخلوقات)
كان أول المخلوقات القلم؛ ليكتب المقادير قبل كونها. وجعل آدم آخر المخلوقات وفي ذلك حكم:
أحدهما: تمهيد الدار قبل الساكن.
الثانية: أنه الغاية التي خُلق لأجلها ما سواه من السماوات والأرض والشمس والقمر والبر والبحر.
الثالثة: أن أحذق الصُنّاع يختم عمله بأحسنه وغايته كما يبدؤه بأساسه ومبادئه.
الرابعة: أن النفوس متطلعة إلى النهايات والأواخر دائماً.
الخامسة: أن الله سبحانه أخّر أفضل الكتب والأنبياء والأمم إلى آخر الزمان، وجعل الآخرة خيراً من الأولى، والنهايات أكمل من البدايات.
السادسة: أنه سبحانه جمع ما فرّقه في العالم في آدم، فهو العالم الصغير وفيه ما في العالم الكبير.
السابعة: أنه خلاصة الوجود وثمرته؛ فناسب أن يكون خلقه بعدد الموجودات.
الثامنة: أن من كرامته على خالقه، أنه هيأ له مصالحه، وحوائجه، وآلات معيشته، وأسباب حياته.
التاسعة: أنه سبحانه أراد أن يظهر شرفه وفضله على سائر المخلوقات؛ فقدمها عليه في الخلق؛ ولهذا قالت الملائكة: ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقاً أكر م عليه منا. فلمّا خلق آدم وأمرهم بالسجود له ظهر فضله.
العاشرة: أنه سبحانه لما افتتح خلق هذا العالم بالقلم كان من أحسن المناسبة أن يختمه بخلق الإنسان؛ فإن القلم آلة العلم، والإنسان هو العالِم. ولهذا أظهر سبحانه فضل آدم على الملائكة بالعلم الذي خُصّ به دونهم.
(فائدة: أقسام العلم والعمل)
العلمُ: نقلُ صورة المعلوم من الخارج، وإثباتها في النفس. والعمل: نقل صورة علمية من النفس وإثباتها في الخارج. فإن كان الثابت في النفس مطابقاً للحقيقة في نفسها فهو علمٌ صحيح. وكثيراً ما يثبت ويتراءى في النفس صور ليس لها وجود حقيقي، فيظنها الذي قد أثبتها في نفسه علماً، وإنما مقدرة لا حقيقة لها. وأكثر علوم الناس من هذا الباب. وما كان منها مطابقاً للحقيقة في الخارج فهو نوعان: نوع تكمل النفس بإدراكه والعلم به، وهو العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وكتبه وأمره ونهيه. ونوع لا يحصل للنفس به كمال، وهو علم لا يضر الجهل به فإنه لا ينفع العلم به، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من علم لا ينفع.
وأما العمل فآفته عدم مطابقته لمراد الله الديني الذي يُحبه الله ويرضاه، وذلك يكون من فساد العلم تارة ومن فساد الإدارة تارة. ففساده من جهة العلم أن يعتقد أن هذا مشروع محبوب لله وليس كذلك، أو يعتقد أنه يُقربه إلى الله وإن لم يكن مشروعاً؛ فيظن أنه يتقرّب إلى الله بهذا العمل، وإن لم يعلم أنه مشروع. وأما فساده من جهة القصد، فأن لا يُقصد به وجه الله والدار الآخرة، بل يُقصد به الدنيا والخلق.
وهاتان الآفتان في العلم والعمل، لا سبيل إلى السلامة منهما إلا بمعرفة ما جاء به الرسول في باب العلم والمعرفة، وإرادة وجه الله والدار الآخرة في باب القصد والإرادة. فمتى خلا من هذه المعرفة وهذه الإرادة فسد عِلمهُ وعمله.
(شكوى الجاهل وشكوى العارف)
الجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه؛ فإنه لو عرف ربّه لما شكاه، ولو عرف الناس لما شكا إليهم.
ورأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجلٍ فاقته وضرورته، فقال: يا هذا، والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك.
والعارفُ إنما يشكو إلى الله وحده. وأعرف العارفين من جعل شكواه إلى الله من نفسه لا من الناس؛ فهو يشكو من موجبات تسليط الناس عليه؛ فهو ناظر إلى قوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم) وقوله: (وما أصابك من سيئةٍ فمن نفسك)
فالمراتب ثلاثة:
أخسها: أن تشكو الله إلى خلقه.
وأعلاها: أن تشكو نفسك إليه.
وأوسطها: أن تشكو خلقه إليه.
(مصالح النفوس في مكروهاتها)
قوله تعالى: (كُتب عليكم القتالُ وهو كُرهٌ لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تُحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم والله يعلمُ وأنتم لا تعلمون).
وقوله عز وجل: (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعلُ اللهُ فيهِ خيراً كثيراً)
فالآية الأولى في الجهاد الذي هو كمال القوة الغضبية. والثانية في النكاح الذي هو كمال القوة الشهوانية. فالعبدُ يكره مواجهة عدوه بقوته الغضبية خشية على نفسه منه، وهذا المكروه خيرٌ له في معاشه ومعاده، ويُحبُ الموادعة والمتاركة، وهذا المحبوب شرٌّ له في معاشه ومعاده. وكذلك يكره المرأة لوصف من أوصافها، وله في إمساكها خيرٌ كثير لا يعرفه. ويُحبُ المرأة لوصف من أوصافها، وله في إمساكها شرٌّ كثير لا يعرفه.
فالإنسان كما وصفه به خالقه “ظلومٌ جهول”؛ فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضره وينفعه ميله وحبه ونُفرتهُ وبُغضه، بل المعيار على ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه.
فأنفع الأشياء على الاطلاق: طاعة ربه بظاهره وباطنه، وأضرّ الأشياء عليه على الاطلاق معصيته بظاهره وباطنه. فإذا قام بطاعته وعبوديته مخلصاً له، فكل ما يجري عليه مما يكرهه يكون خيراً له، وإذا تخلى عن طاعته وعبوديته، فكل ما هو فيه من محبوب شرٌّ له.
(قاعدة: أساس الخير)
أساس كل خيرٍ: أن تعلم أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. فتيقن حينئذٍ أن الحسنات من نِعمه، فتشكره عليها وتتضرع إليه أن لا يقطعها عنك، وأن السيئات من خذلانه وعقوبته، فتبتهل إليه أن يحول بينك وبينها، ولا يكلك في فعل الحسنات وترك السيئات إلى نفسك.
وقد أجمع العارفون على أن كل خير فأصله بتوفيق الله للعبد، وكل شر فأصله خذلانه لعبده. وأجمعوا ان التوفيق أن لا يكلك الله إلى نفسك، وأن الخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك.
وعلى قدر نية العبد وهمّته ومراده ورغبته في ذلك، يكون توفيقه سبحانه وإعانته. فالمعونة من الله تنزل على العبد قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك.
فالله سبحانه أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين، يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به، والخذلان في مواضعه اللائقة به، وهو العليم الحكيم.
(فائدة جليلة: ترك العوائد لله)
إنما يجدُ المشقة في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله. أما من تركها صادقاً مخلصاً من قلبه لله، فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة ليُمتحن أصادقٌ هو في تركها أم كاذب؛ فإن صبر على تلك المشقة قليلاً استحالت لذة. قال ابن سيرين: سمعتُ شريحاً يحلف بالله ما ترك عبدٌ لله شيئاً فوجد فُقده. وقولهم: من ترك لله شيئاً عوّضه اللهُ خيراً منه حقّ؟ والعِوض أنواع مختلفة، وأجلُّ ما يعوض به: الأُنسُ بالله، ومحبته، وطمأنينة القلب به، وقوته، ونشاطه، رضاه عن ربه تعالى.
أقرب الوسائل إلى الله: ملازمة السُنة، والوقوف معها في الظاهر والباطن، ودوام الافتقار إلى الله، وإرادة وجهه وحده بالأقوال والأفعال، وما وصل أحدٌ إلى الله إلا من هذه الثلاثة، وما انقطع عنه أحد إلا بانقطاعه عنها او عن أحدها.
(قاعدتا الدين: الذكر والشكر)
مبنى الدين على قاعدتين: الذكر والشكر، قال تعالى: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: “والله إني لأحبك فلا تنسَ أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك”. وليس المراد بالذكر مجرد ذكر اللسان، بل الذكر القلبي واللساني. وذكره يتضمن ذكر أسمائه وصفاته، وذكر أمره ونهيه، وذكره بكلامه. وذلك يستلزم معرفته، والإيمان به، وبصفات كماله، ونعوت جلاله، والثناء عليه بأنواع المدح، وذلك لا يتم إلا بتوحيده. فذكره الحقيقي يستلزم ذلك كله، ويستلزم ذكر نعمه وآلائه وإحسانه إلى خلقه.
وأما الشكر، فهو القيام له بطاعته، والتقرّب إليه بأنواع محابه ظاهراً وباطناً، وهذان الأمران هما جماع الدين؛ فذكره مُستلزم لمعرفته وشكره، متضمن لطاعته. وهذا هما الغاية التي خُلق لأجلها الجن والأنس والسماوات والأرض، ووضع لأجلها الثواب والعقاب، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، وهي الحق الذي به خُلقت السماوات والأرض وما بينهما، وضدها هو الباطل والعبث الذي يتعالى ويتقدس عنه، وهو ظن أعدائه به. قال تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا).
(علامات السعادة والشقاوة)
من علامات السعادة والفلاح: أن العبد كلما زيدَ في علمه زيدَ في تواضعه ورحمته. وكلمّا زيدَ في عمله زيدَ في خوفه وحذره. وكلما زيدَ في ماله زيدَ في سخائه وبذله. وكلما زيدَ في قدره وجاهه زيدَ في قربه من الناس وقضاء حوائجهم والتواضع لهم.
وعلامات الشقاوة: أنه كلما زيدَ في علمه زيد في كِبره وتيهه، وكلما زيدَ في عمله زيدَ في فخره واحتقاره للناس وحُسن ظنه بنفسه، وكلما زيدَ في عمره زيدَ في حرصه، وكلما زيدَ في ماله زيدَ في بخله وإمساكه وكلما زيدَ في قدره وجاهه زيدَ في كبره وتيهه. وهذه الأمور ابتلاء من الله وامتحان يبتلي بها عباده، فيسعد بها أقوام ويشقى بها أقوام.
وكذلك الكرامات امتحان وابتلاء، كالملك والسلطان والمال. قال تعالى عن نبيه سلمان لما رأى عرش بلقيس عنده: (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أ أكفر).
فالنعم ابتلاء من الله يظهر بها شُكر الشكور وكفر الكفور. كما أن المحن بلوى منه سبحانه، فهو يبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب.
(أنواع النعم)
النعم ثلاثة: نعمةٌ حاصلة يعلمُ بها العبد، ونعمة منتظرة يرجوها، ونعمة هو فيها لا يشعر بها. فإذا أراد الله إتمام نعمته على عبده، عرّفه نعمته الحاضرة، وأعطاه من شكره قيداً يُقيدها به حتى لا تشرد؛ فإنها تشرد بالمعصية وتُقيّد بالشكر. ووفقه لعمل يستجلب به النعمة المنتظرة، وبصره بالطرق التي تسدها وتقطع طريقها ووفقه لاجتنابها. وإذا بها قد وافت إليه على أتم الوجوه، وعرّفه النعم التي هو فيها ولا يشعر بها.
يُحكى أن أعرابياً دخل على الرشيد، فقال: أمير المؤمنين، ثبت الله عليك النعم التي أنت فيها بإدامة شكرها، وحقق لك النعم التي ترجوها بحسن الظن به ودوام طاعته، وعرّفك النعم التي أنت فيها ولا تعرفها لتشكرها. فأعجبه ذلك منه وقال: ما أحسن تقسيمه.
(قاعدة: لذة الآخرة)
اللذة من حيث هي مطلوبة للإنسان، بل ولكل حيّ، فلا تُذمُ من جهة كونها لذة، وإنما تُذمُ ويكون تركها خيراً من نيلها وأنفعُ إذا تضمنت فوات لذة أعظم منها وأكمل، أو أعقبت ألماً حصوله أعظم من ألم فواتها.
فهاهنا يظهر الفرق بين العاقل والفطن والأحمق والجاهل. فمتى عرف العقلُ التفاوت بين اللذتين والألمين، وأنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر، هان عليه ترك أدنى اللذتين لتحصيل أعلاهما واحتمال أيسر الألمين لدفع أعلاهما.
وإذا تقررت هذه القاعدة، فلذة الآخرة أعظم وأدوم، ولذة الدنيا أصغر وأقصر، وكذلك ألم الآخرة وألم الدنيا.
والمعوّل في ذلك على الإيمان واليقين، فإذا قوي اليقين وباشر القلب آثر الأعلى على الأدنى في جانب اللذة واحتمل الألم الأسهل على الأصعب. والله المستعان.
كتاب الفوائد لابن القيم mp3
يمكنك الحصول نسختك المطبوعة من كتاب ابن قيم الجوزية الفوائد ليصلك إلى منزلك ويمكنك الدفع مقدم او الدفع عند الاستلام بالاضافة لاي كتاب آخر ترغب به