طلبت مني أمي أن أُرافقها من أجل بيع البيت. كانت قد وصلت في ذلك الصباح إلى بارانيكا قادمة من القرية النائية حيث تعيش الأسرة، دون أن تكون لديها أدنى فكرة عن كيفية العثور عليّ. فراحت تسأل هنا وهناك بين المعارف، فأشاروا عليها بأن تبحث عني في مكتبة “موندو” أو في المقاهي المجاورة، حيث أذهب مرتين في اليوم لتبادل الحديث مع أصدقائي الكُتّاب.
شقت طريقها بمشيتها الخفيفة بين مناضد الكتب المعروضة، ووقف أمامي، تنظر إلى عيني مباشرة بابتسامة ماكرة، وقالت لي قبل أن أتمكن من الإتيان بأي رد فعل:
أنا أمك.
ثمة شيء قد تغير فيها منعني من التعرف عليها للوهلة الأولى. كانت في الخامسة والأربعين. وإذا ما أضفنا إلى سنوات عمرها ولاداتها الإحدى عشرة، تكون قد أمضت عشر سنوات تقريباً وهي حبلى، ومثلها على الأقل وهي تُرضع أبناءها. كانت قد شابت تماماً قبل الأوان، وبدت عيناها كبيرتين جداً وذاهلتين وراء نظارتها ثنائية البؤرة.
قالت لي قبل أي شيء آخر، وحتى قبل أن تُعانقني، بأسلوبها الاحتفالي المعهود:
جئت أطلب منك معروفاً بمرافقتي لبيع البيت.
ولم تكن مُضطرة لأن تقول أي بيتٍ هو، ولا أين، لأنه لم يكن لنا سوى بيت واحد في هذا العالم: بيت الجدين القديم في آركاتاكا، الذي حالفني الحظ بالولادة فيه، ولم أعد للعيش هناك منذ بلوغي السنة الثامنة من عمري. كنت آنذاك قد هجرت كلية الحقوق بعد ستة فصول دراسية، أمضيتها، قبل أي شيء آخر، في قراءة كل ما يقع تحت يدي. كنت قد قرأت، مترجمة وفي طبعات مستعارة، كل الكتب التي تكفيني لتعلّم تقنية قص الروايات؛ وكنت قد نشرت ست قصص قصيرة في ملاحق صحفية، استحقت حماس أصدقائي واهتمام بعض النقاد.
كنت قد هجرت الجامعة في السنة السابقة، معللاً النفس بالوهم الجريء في العيش من الصحافة والأدب دون حاجة إلى تعلمها. متحمساً لعبارة أظن أنني قرأتها لبرناردشو: “منذ طفولتي المبكرة اضطررت إلى قطع تعلميّ لكي أذهب إلى المدرسة”. ولم أجرؤ على مناقشة الأمر مع أحد، لأنني كنت أشعر، دون أن أتمكن من تفسير ذلك، بأن مسوغاتي لن تكون نافعة إلا لي أنا بالذات.
محاولة إقناع أبويّ بمثل ذلك التصرف الجنوني، بعد أن عقدا عليّ آمالاً كبيرة وأنفقا نقوداً كثيرة لم يكونا يملكانها، هو إضاعة للوقت. ولا سيما أبي الذي يمكن له أن يغفر ليّ أي شيء، باستثناء عدم تعليق شهادة جامعية، لم يستطع هو الحصول عليها، على الجدار.
من عرفوني، وأنا في الرابعة من عمري، يقولون إنني كنت شاحباً ومستغرقاً في التأمل، وإنني لم أكن أتكلم إلا لأروي هذيانات. ولكن حكاياتي، في معظمها، كانت أحداثاً بسيطة من الحياة اليومية، أجعلها أنا أكثر جاذبية بتفاصيل مُتخيلة، لكيّ يُصغي إليّ الكبار. وكانت أفضلُ مصادر إلهامي، هي الأحاديث التي يتبادلها الكبار أمامي، لأنهم يظنون أنني لا أفهمها، أو التي يُشفرونها عمداً، كيلا أفهمها. لكن الأمر كان خلاف ذلك: فقد كنت أمتصها مثل إسفنجة، وأفككها إلى أجزاء، وأُقلبها لكي أُخفي الأصل؛ وعندما أرويها للأشخاص أنفسهم الذين رووها، تتملكهم الحيرة للتوافق الغريب بين ما أقوله، وما يُفكرون فيه.
في بعض الأحيان، لم أكن أعرف ما أفعله بضميري؛ وأحاول مواراته بطرف عيني طرفاً سريعاً. وكان ذلك يتكرر إلى حد أن شخصاً عقلانياً في الأسرة، قرر أن يعرضني على طبيب عيون، فعزا هذا الأخير طرف عيني إلى علة اللوزتين، ووصف ليّ شراباً من لفت مُيودن كان مفعوله جيداً لطمأنة الجدين. وتوصلت الجدة من جهتها إلى النتيجة القدرية، بأن حفيدها متنبئ. فجعل ذلك منها ضحيتي المفضلة، حتى اليوم الذي أغمي عليها فيه لأنني حلمت، فعلاً، بأن عصفوراً حياً خرج من فم الجد. وكان الرعب من أن أكون السبب في موت الجد، هو العنصر المهدئ الوحيد لاندفاعي المبكر. وأنا أُفكر الآن في أن كل ذلك لم يكن خبث طفل، كما يمكن أن يُظن، وإنما التقنيات البدائية لراوٍ في بداياته، من أجل جعل الواقع أكثر مُتعة وقابلية للفهم.
لقد تكلفتُ مشقة كبيرة في تعلّم القراءة. إذ لم يكن يبدو ليّ منطقياً أن حرف “م” يُسمى “ميم”، ومع ذلك فإنه، بإضافة حرف “ا” الصوتي إليه، لا يُلفظ “ميماً” وإنما “ما”. كان من المستحيل عليّ القراءةُ على هذا النحو. وأخيراً، عندما وصلت إلى مدرسة مونتيسوري، لم تعلّمني المعلمة أسماء الحروف، وإنما منطوقها. وهكذا استطعت أن أقرأ أول كتاب وجدته في خزانة معفرة في مستودع البيت. كان مفككاً وغيرُ مكتمل، ولكنه اجتذبني بشدة حتى إن خطيب سارا أطلق لدى مروره إنذاراً رهيباً: “يا للعنة! هذا الطفل سيصيرُ كاتباً.
ولأنه هو، الذي يعيش من الكتابة، من قال ذلك، فقد سبب ليّ انفعالاً عظيماً. وقد مرّت عدة سنوات قبل أن أعرف أن ذلك الكتاب هو “ألفُ ليلةٍ وليلة”.
كان أبيّ، في جانبه الأكثر مدعاة للإعجاب والتأثير، متعلماً ذاتياً بالمطلق، وأشدُ من عرفتُ من القُرّاء نهماً. وإن يكن أقلهم منهجية. فمنذ أن هجر مدرسة الطب، انكبّ وحيداً على دراسة الطب التجانسي، الذي لم يكن يتطلب في ذلك الحين تكويناً أكاديمياً. وحصل على تصريح بمزاولته مع التكريم. ولكنه لم يكن يتمتع بالمقابل، بصلابة أمي في تجاوز الأزمات. وقد أمضى أسوأها في أرجوحة النوم في غرفته، وهو يقرأ كل ما يقع بين يديه من الورق المطبوع، ويحلّ الكلمات المتقاطعة. غير أن مشكلته مع الواقع عصيّة الحل. فقد كان ينظر إلى الأغنياء، بورع شبه أسطوري. ولكن ليس الأغنياء الذين لا تفسير لغناهم. وإنما أولئك الذين شكلوا ثرواتهم بقوة الموهبة وسعة الأفق. وكان يبقى مؤرقاً في أرجوحة نومه، حتى في وضح النهار. يراكم ثروات هائلة في مخيلته، بمشاريع سهلة لا يفهم كيف لم تخطر له من قبل. عدم واقعيته المشؤوم أبقانا معلقين بين الخيبات والعودة إلى البدء من البداية.
كانت هناك مشكلة خطيرة تتمثل في السرعة التي تضيق بها ثيابنا علينا. لم يكن هناك من يرث ملابس لويس إنريكي، لأنه كان يرجع من الشارع متهالكاً، وثيابه ممزقة، أما الأخوات –وهن بين السادسة والتاسعة من أعمارهن – فكن يتدبرن أمر ملابس إحداهن بملابس الأخرى. وكنت أنا في وضع أصعب من الجميع، ليس لأنه علي القيام بمساعٍ متميزة وحسب، وإنما لأن أمي، محاطة بحماس الجميع، جازفت في تقليص النفقات المنزلية، لتسجيلي في مدرسة كارتاخينا دي إندياس، على بعد نحو عشر كوادرات، مشياً من بيتنا.
وبناء على الاستدعاء، توجهنا، نحن العشرين متقدماً، في الساعة الثامنة، من أجل مسابقة القبول، لم يكن فحصاً كتابياً لحسن الحظ، وإنما كان هناك ثلاثة معلمين يستدعوننا، وفق تسلسل تسجيلنا في الأسبوع السابق ويجرون لنا اختباراً موجزاً بالاستناد إلى وثائق دراستنا السابقة. وكنت الوحيد الذي لا يملك تلك الوثائق، لأن ضيق الوقت لم يُتح طلبها من مدرسة مونتسوري. وكانت أمي تُفكر في أنني لن أُقبل من دون الوثائق. ولكني قررت التظاهر بالبلاهة. أخرجني أحد المعلمين من الصف، عندما اعترفت له بأنني لا أملك الوثائق، ولكن معلماً آخر تولى مسؤولية تقرير مصيري وأخذني إلى مكتبه، ليُجري ليّ الفحص، دون مطلب مسبق. سألني ما هي كمية الغرويسا، وما هو عدد سنوات اللوسترو والألفية. وطلب مني أن أذكر عواصم المحافظات الإدارية، وأنهار البلاد الرئيسية والبلدان التي تحدها. بدا لي كل ذلك روتينياً. إلى أن سألني ما هي الكتب التي قرأتها. ولفت انتباهه أنني ذكرت كتباً كثيرة وشديدة التنوع بالنسبة لسني، وبأنني قرأت “ألف ليلة وليلة”، في طبعة للكبار لم تحذف منها بعض الفقرات الحرجة. وقد فوجئت عندما علمت أنه كتاب مهم. وبعد نصف ساعة من التعليقات السريعة، رافقني حتى المخرج، دون أن يقول ليّ إذا ما كنت قد قُبلت. فكرتُ أن لا، طبعاً، ولكنه ودعني عند الشرفة بالشدّ على يدي والقول ليّ، إلى اللقاء في الساعة الثامنة من صباح يوم الاثنين، من أجل تسجيلي في الصف الأعلى من المدرسة الابتدائية: الصف الرابع.
لقد كان المدير العام، وأنا أتذكره كصديق طفولة، دون أي أثر من الصورة المرعبة التي كانت شائعة عن مُعلميّ تلك الحقبة. فضيلته التي لا تُنسى، كانت في معاملتنا جميعاً كراشدين متساوين، بالرغم من أنني ما زلت أشعر بأنه كان يوليني اهتماماً خاصاً، فقد اعتاد أن يوجه ليّ خلال الدروس، أسئلة أكثر من الآخرين، ويساعدني لتكون إجاباتي صائبة وبسيطة.وكان يسمح ليّ بأخذ الكتب من المكتبة المدرسية لأقرأها في البيت. وقد كان اثنان من تلك الكتب، “جزيرة الكنز” و”الكونت دي مونتكريستو”، هما المخدر السعيد في سنوات الأعاجيب تلك. كنتُ ألتهمهما حرفاً حرفاً. وقد تعلمتُ منهماً، مثلما تعلمت من ألف ليلة وليلة، ما لن أنساه أبداً، بأنه يجب أن نقرأ فقط الكتب التي تُجبرنا على أن نُعيد قراءتها.
لم أنتبه، وأنا في المدرسة الابتدائية. في بارانكيا، إلى أنني كنتُ مصاباً بالقمل إلى أن نقلتُ العدوى إلى الأسرة كلها. وأظهرت أميّ آنذاك دليلاً آخر على صلابة طبعها. فقد عقّمت أبناءها واحداً واحداً، بمبيد صراصير، في عملية تنظيف معقمة عمّدتها باسم ذي وقع مهيب: الشرطة. ولكن السيئ في الأمر، هو أننا ما أن تطهرنا حتى بدأنا نُصاب من جديد، لأن العدوى انتقلت إليّ مجدداً في المدرسة، عندئذ قررت أمي قطع الداء من جذوره، فأجبرتني على قص شعري من أصوله. كان ظهوري في المدرسة يوم الاثنين، وأنا أضع قبعة قماشية، عملاً بطولياً، ولكني تجاوزت، بشرف سخريات زملائي، وتوجت السنة النهائية بأعلى التقديرات والدرجات.
وجد لي صديق لوالدي، عملاً في مطبعة قريبة من البيت. وكان الأجر أقل بكثير من لا شيء. وكانت فكرة تعلّم المهنة هي دافعي الوحيد. ومع ذلك، لم تكن تتوفر لي لحظة واحدة لرؤية المطبعة، لأن عملي كان يتلخص في ترتيب الملازم المطبوعة، لكي يجلدوها في قسم آخر. وكان عزائي هو أن أمي سمحت لي بأن أشتري من أجري، ملحق صحيفة لابرنسا ليوم الأحد، وكان يتضمن قصص رسوم متسلسلة عن طرزان، وبوك روجرز – وقد تعلمت في استراحة أيام الآحاد، رسمهم من الذاكرة؛ وكنت أستكمل حلقة الأسبوع، وأضعُ لها نهاية على هواي. فتوصلتُ بذلك، إلى إثارة حماس بعض الكبار في الحيّ. بل واستطعت أن أبيعها مقابل سنتين اثنين.
على بعد كوادرا من البيت، أقمنا صداقة مع آل موسكيرا. وهم أسرة تنفق ثروة على شراء مجلات القصص المصورة، ويكدسونها حتى السقف في عنبر في الفناء. وكنا نحن المحظوظين الوحيدين الذين أمضوا هناك أياماً بكاملها في قراءة “داك تراكي” و”بوك روجرز”. ولُقيةً سعيدة أخرى، هي مُتدرب يرسم إعلانات لأفلام سينما كينتاس القريبة، وكنت أساعده لمجرد المتعة في تلوين الحروف، فيُدخلنا مجاناً مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع، إلى أفلام إطلاق الرصاص وتبادل اللكمات. الترف الوحيد الذي افتقدناه، هو جهاز مذياع لسماع الموسيقى في أي وقت، بمجرد لمسة زر. من الصعب اليوم، تصوّر كم كانت تلك الأجهزة نادرة في بيوت الفقراء.
الحقيقة أنه في أثناء كل مناقشة حول تعليم الأبناء، كانت تراودني الأحلام على الدوام، بأن يعمد أبي، في إحدى نوبات غضبه، إلى إصدار أمره بألا يعود أي واحدٍ منا إلى المدرسة. لم يكن ذلك مستحيلاً، فهو نفسه تعلّم ذاتياً، بسبب فقره الشديد. لقد كنتُ أخشى المدرسة كأنها السجن. وترعبني فكرة العيش، خاضعاً لنظام جرس يُقرع، ولكنها كانت في الوقت نفسه، الإمكانية الوحيدة المتاحة لي للاستمتاع بحياتي الحرة منذ سن الثالثة عشرة. إذ يمكنني الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع الأسرة. ولكن بعيداً عن نظامها. وحيث أستطيع أن أقرأ، دون التقاط للأنفاس، ما دام الضوء يسعفني.
أبي، كان يُفضل ذهابي إلى المدرسة الأمريكية، لكي أتعلم الإنكليزية. ولكن أمي استبعدت هذا الاحتمال، متذرعة بأنها وكر لوثريين. وعليّ اليوم أن أعترف بأن أحد أخطاء حياتي ككاتب، هو عدم تكلم الإنكليزية.
لقد اكتسبت الشهرة، منذ بدايتي في المدرسة، بأنني شاعر، أولاً بسبب السهولة التي أحفظ بها عن ظهر قلب. قصائد الكلاسيكيين والرومانسيين الإسبان، في كتب النصوص، وألقيها بصوت جهوري، ثم بعد ذلك بسبب الأهاجي المقفاة التي كنت أكرسها لزملائي في الصف، ونُشرت في مجلة المدرسة. وما كنت لأكتبها، أو أنني كنتُ سأوليها قليلاً من الاهتمام، لو أنني تصورت أنها ستنال مجد الكلمة المطبوعة.
كان إدمان قراءة كل ما يقع في يديّ، يشغل وقت فراغي ووقت الدروس كله تقريباً، وكنت قادراً على إلقاء قصائد كاملة من القائمة الشعبية التي كانت شائعة آنذاك، في كولومبيا، وقد حفظت معظمها من نصوص منهاج المدرسة نفسه.
كنت أقرأ في أثناء الدروس، واضعاً الكتاب مفتوحاً على ركبتيّ، وبوقاحة يبدو ليّ أنني ما كنتُ لأنجو من عقوبتها، إلا بتواطؤ المعلمين.
الأمر الوحيد الذي لم أتمكن من تحقيقه بحيلي محكمة القوافي، هو إعفائي من القداس اليومي، في السابعة صباحاً، وإضافة إلى كتابة حماقاتي، كنت أؤدي الغناء المنفرد في الكورال، وأرسم الكاريكاتير الساخر، وأُلقيّ القصائد في المناسبات الرسميّة، وأشياء كثيرة أخرى خارج الزمان والمكان، بحيث لم يكن هناك من يفهم في أي وقت أدرس دروسي. وقد كان السبب بسيطاً: لم أكن أدرس دروسي.
وسط كل تلك الديناميكية المفرطة، ما زلت لا أفهم حتى الآن، لماذا كان الأساتذة يهتمون بيّ إلى ذلك الحد، دون أن يرفعوا أصوات الاستنكار ضد أخطائي الإملائية. على خلاف أمي التي كانت تُخفيّ بعض رسائلي عن أبي لإبقائه حياً، وتُعيد لي غيرها مصححة، وترفقها أحياناً بتهنئة على بعض التقدم في النحو والاستخدام الجيد للكلمات. وما زالت اليوم مشكلتي هي نفسها: لا يمكنني أن أفهم أبداً لماذا هناك حروف لا تُنطق، أو لماذا يوجد حرفان مختلفان لهما المنطوق نفسه. أو غيرها من القواعد غير المجدية.
لم أتصور قط أن قصتي القصيرة الأولى ستنشر، بعد تسعة شهور على تخرجي من الثانوية، في الملحق الأدبي “نهاية الأسبوع” الذي تُصدره جريدة الاسبكتادور في بوغوتا، وهي أكثر صحف تلك المرحلة أهميّة وصرامة. وبعد اثنين وأربعين يوماً من ذلك، نُشرت القصة القصيرة الثانية.
كنت قد سجلت في مطلع تلك السنة، في كلية الحقوق بالجامعة الوطنية في بوغوتا، مثلما جرى الاتفاق مع أبويّ. وكنت أعيش في مركز المدينة تماماً، في نُزل شارع فلوريدا. وكنت في فترات ما بعد الظهر، بدلاً من أن أعمل لأعيش، أظل أقرأ في غرفتي أو في المقاهي التي تسمح بذلك. كانت قراءاتي في كتب يوفرها الحظ والمصادفات. ذلك أن الأصدقاء القادرين على شرائها يعيرونني إياها، لفترات محدودة، فأقضي الليالي ساهراً كي أتمكن من إعادتها إليهم في الموعد المحدد.
كان أحد زملائي في الحجرة هو دومنغو مانويل بيغا، طالب طب تربطني به صداقة منذ وجودنا في سوكري، ويُشاطرني نهم القراءة، وقد رجع في إحدى الليالي، ومعه ثلاثة كتب اشتراها لتوه. فأعارني واحداً لا على التعيين منها. مثلما كان يفعل بكثرة، لمساعدتي على النوم. ولكنه توصل في تلك الليلة، إلى عكس ما يريده تماماً: إذ لم أعد قط، إلى النوم بالوداعة السابقة. كان الكتاب هو “المسخ” لفرانز كافكا، وقد حدد ذلك الكتاب مساراً جديداً لحياتي منذ السطر الأول.
حين انتهيت من قراءة “المسخ”، بقيت لديّ لهفة لا تُقاوم إلى العيش في ذلك الفردوس الغريب. وفي اليوم التالي، فاجأني دومنغو نفسه بالآلة الكاتبة النقالة التي أعارني إياها، لكي أحاول شيئاً يُشبه موظف كافكا المسكين المتحول إلى صرصار ضخم، لم أذهب في الأيام التالية إلى الجامعة، خوفاً من كسر ذلك السحر، وواصلت تعرق قطرات من الحسد إلى أن نشر إدوارد ثالاميا، على صفحات ملحقه الأدبي، ملاحظة متفجعة، يتحسر فيها من أن جيل الكُتّاب الكولومبيين الجدد يفتقر إلى أسماء يمكن تذكرها، وأنه ليس هناك ما يُلمح في المستقبل، ويمكنه التعويض وتعديل تلك الحال. لا أدري بأي حق أحسست أنني المعني، باسم أبناء جيلي، بما تتضمنه الملاحظة من تحدٍ، فعدت إلى تناول القصة المهجورة، في محاولة لإصلاح الحيف، صغتُ الفكرة المحورية للجثة الواعية في “المسخ”، إنما متخلصة من أسرارها الزائفة. كنت أشعر بانعدام الثقة إلى حد لم أتجرأ معه على التشاور في الأمر مع أي واحد من الزملاء. وضعت كل شيء في مغلف، وتركته على منضدة بواب جريدة الاسبيكتادور، ومضيتُ هارباً.
حدث ذلك يوم الثلاثاء، ولم أكن أشعر بأدنى قدر من القلق على مصير قصتي القصيرة، ولكنني كنتُ واثقاً من أنه في حال نشرها، لن يكون ذلك في وقت قريب جداً. حتى يوم الثالث عشر من أيلول، حين دخلت إلى مقهى الطاحونة، واصطدمت مواجهة بعنوان قصتي على كامل عرض الاسبيكتادور التي صدرت لتوها: “الاستسلام الثالث”.
كان رد فعليّ الأول هو اليقين الساحق بعدم امتلاكي خمسة سنتات لشراء الصحيفة. وقد كان ذلك هو الرمز الأكثر جلاء للفقر، لأن أشياء كثيرة أساسية من متطلبات الحياة اليومية، فضلاً عن الصحيفة، كانت تُكلف خمسة سنتات.
منعت من التدخين بسبب النزلة الصدرية. ولكنني كنتُ أُدخن في الحمام، كما لو أنني أختبئ من نفسي. لاحظ الطبيب ذلك وكلمني بجديّة. ولكنني لم أتمكن من الانصياع له. كنت أُشعل سيجارة من عقب أخرى، إلى أن لم أعد قادراً على المزيد. وكلما حاولت ترك التدخين، كنت أُدخن أكثر. بعد أكثر من عشرين سنة، وكنت قد تزوجت وصار لي ابنان، وحين رأى الطبيب رئتي على الشاشة، قال لي مذعوراً إنني لن أتمكن من التنفس، بعد سنتين أو ثلاث. أصابني الرعب، وبلغ بي الأمر حد البقاء جالساً لساعات دون أن أفعل شيئاً آخر، لأنني لم أعد أستطيع القراءة، أو الاستماع إلى الموسيقى، أو تبادل الحديث مع الأصدقاء، دون تدخين. وفي إحدى الليالي، خلال عشاء عارض في برشلونة، كان طبيب نفساني صديق يشرح لأخرين أنه ربما كان التدخين هو الإدمان الذي يصعب التخلص منه أكثر من سواه، فتجرأت على سؤاله عن السبب العميق وراء ذلك، فكان رده تبسيطاً يبعثُ على القشعريرة:
لأن ترك التدخين سيكون بالنسبة لك، أشبه بقتل كائن عزيز.
ما حدث كان أشبه، بتفجير بصيرة، لم أعرف السبب قط، ولم أشأ معرفته، لكني سحقت، في المنفضة، السيجارة التي كنت أشعلتها للتو، ولم أعد للتدخين بعدها، بلا جزع ولا أسف، طوال ما تبقى من حياتي.
الرحلة مع أمي لبيع البيت في آراكاتاكا، أثبتت لي بالتجربة، أن الكتاب الذي حاولت كتابته، ما هو إلا مجرد اختلاق بلاغي، ليس له أي استناد إلى حقيقة شعرية، وقد تفتت المشروع شظايا، عند مواجهته بالواقع الذي تكشف لي في تلك الرحلة. فمنذ خطواتي الأولى على رمال القرية الملتهبة، أدركتُ أن منهجي لم يكن هو الأكثر ملاءمة لرواية ذلك الفردوس الأرضي من الخراب والحنين، بالرغم من أنني أنفقت الكثير من الوقت والعمل، للعثور على المنهج الصحيح.
ظل بقية أصدقائي يعتقدون لوقت طويل، أنني ما زلت اواصل العمل في مشروع رواية “البيت” القديم. فقررت أن أُبقي الأمور على ذلك النحو، بسبب الخوف الطفولي من أن يُكتشف إخفاق فكرة كنت قد تكلمتُ عنها طويلاً، كما لو أنها عمل خالد، ولكنني فعلت ذلك أيضاً، لاعتقاد خرافي ما زلت أؤمن به، بوجوب رواية قصة، وكتابة أخرى مختلفة كيلا يُعرف أي منهما هي الصحيحة.
لم يتعرض الكتاب الجديد لأي تغير معمق خلال كتابته، باستثناء بعض الحذف والترقيع على امتداد سنين، قبل صدور طبعته الأولى، ربما بسبب إدماني عادة مواصلة التصحيح حتى الموت.
كتاب مفيد وجميل
التعليقات مغلقة.